قراءة في رواية رجاء عالم الأخيرة ( باهبل) ..
رؤية نسويّة ما بعد الحداثة والفانتازيا و الواقعية السحرية.

تأتي هذه الرواية في سياق نهج الكاتبة الإبداعي الحداثي في الرواية العربية بعامة والرواية السعودية على نحو خاص ؛ وقد بدا واضحاً من سلسلة إنجازاتها الروائية أنها تعمل على اكتشاف عوالم سرديّة على غرار تلك التي أهَّلت أصحابها في أمريكا الاتينية للفوز بجائزة نوبل على نحو لافت؛ إذ نال هذه الجائزة عدد كبير منهم :غابرييل غارسيا ماركيز (كولومبيا) (1982) و بابلو نيرودا (شيلي) (1971) وماريّو فارغاس يوسا (بيرو) (2010) وتو ميغز (البرازيل) (1970) والواقعية السحرية أسلوب يُدمج بين الواقع والخيال في سياق واحده؛ يتم عرض عناصر سحرية أو غريبة في العالم الحقيقي،وهي عناصر لها جذورها في ثقافة المنطقة وخصوصيتها في ذاكرة شعوبها دون أن تثير استغراب الشخصيات أو تكون خارجة عن السياق الطبيعي للأحداث؛ تبدو الأشياء الخارقة في هذا الأسلوب كأنها جزء طبيعي من الحياة اليومية،وبيدو الفرق بينها وبين روايتها التي اهتمت بالبيئة المكية السابقة لها التي صدرت عام 2010 (طوق الحمام)واضحة. تُعدُّ كلتا الروايتين من أعمال رجاء عالم المميّزة في تصوير البيئة المكيّة، لكنهما تختلفان من حيث الزمان والمضمون والأسلوب ؛إذ تُركِّز “طوق الحمام” على مكة القديمة فهي تمزج في أسلوب السرد بين الواقع والخيال في إطار تجريبي، بينما تمتد أحداث “باهبل” (2023) لتغطي فترة طويلة (1945–2009) وتستعرض تحوّلات مكة الاجتماعية والثقافية عبر أجيال من عائلة “السردار” وهي تذكّرنا بالروايات العائلية في (ثلاثية نجيب محفوظ ) التي تمتد لثلاثة أجيال وغيرها ، مع تركيز واضح على حياة النساء وصراعاتهن ضد التقاليد القمعية ، ففي”طوق الحمام” بنية سردية غير خطية وطبقات رمزية تُعبّر عن قضايا الوجود والموت بطريقة تجريبيّة وشعريّة؛ أما “باهبل” فتتبنى سرديّة أكثر اتساعًا وتوثيقًا تاريخيًاً واجتماعيًاً، حيث تُبنى الأحداث على صراع عائلي يمتدّ عبر الزمن ويكشف عن تأثير التقاليد الذكوريّة على الهوية الفردية والجماعية ؛ إذ تظهر فيها النزعة النسويّة ؛ ففي “طوق الحمام” تتجلى مواضيع مثل التناقض بين الحياة والموت والبحث عن معاني الوجود من خلال رموز أدبية غنية ؛ بينما تركّز “باهبل” على التّغيّر الاجتماعي والتحرر، وتطرح تساؤلات حول كييفيّة مواجهة القيود الاجتماعية المفروضة على النساء ،فتُعد “طوق الحمام” رحلة رمزيّة داخل أبعاد مكة الملوّنة بالغموض والخيال، بينما تُقدّم “باهبل” سردًا تاريخيًاً واجتماعيًاً أكثر شموليةً يُوثّق صراعات وتحوّلات مجتمع مكيّ حقيقي في مواجهة تقاليد لا تزال تُكبّل الحرية الفردية ؛ ولعل هذا ما دفع ناقداً مُهّماً مثل على الشدوي إلى تساؤله عما أنجزته رجاء عالم في هذه الرواية (هل هذه هي رجاء عالم؟) بعد أن أشار إلى أن” كل شيء في الأسرة المكية يطفو على سطح العمل ، وأنها لامست حدّ التكلّف في تفسير الواقع ؛وربما تساءلتُ بدوري عما إذا كان مثل هذا الأسلوب في التعامل مع الواقع يهمّشه أو يقلل من قيمته ؛ ولعل قيمته الحقيقية تتبدّى إذا قارناه مع أعمال أخرى في الرواية السعودية اتخذت من الفضاء المكي عالماً روائيّاً ، مثل سقف الكفاية حيث مكة تظهر كخلفية ثقافية ودينية أكثر من كونها مسرحًا رئيسيًا للأحداث ،وكذلك الأمر فيما يتعلق برواية رواية “خاتم” للكاتبة ذاتها تروي قصة شخصية تسكن مكة القديمة وتتعامل مع أسرار المدينة وروحانيتها بطريقة مشوقة، وكذلك في أعمال محمود تراوري الذي تُعدُّ مدينة مكة المكرمة محورًا أساسيًا في أعمال هذا الكاتب الروائي المتميّز، حيث تتجلى معالمها وتفاصيلها بوضوح في رواياته وقصصه، يُظهر تراوري ارتباطًا وثيقًا بهذه المدينة المقدسة، ويعكس ذلك في تصويره للأماكن والشخصيات والأحداث.ومنهارواية “جيران زمزم” (2013) التي سبق أن قدّمت قراءة لها في مقالة سابقة ؛ هذه الرواية من أبرز أعمال تراوري التي تتناول الحياة في مكة المكرمة. يستعرض من خلالها تفاصيل الحياة اليومية لسكان المدينة، مع التركيز على الجوانب الاجتماعية والثقافية ؛إذ يغوص تراوري في رواية “ميمونة” في عمق الحياة المكيّة،مسلطًا الضوء على التقاليد والعادات التي تميز سكانها وكذلك في رواية “أخضر يا عود القنا”: تُظهر هذه الرواية الجوانب الثقافية والاجتماعية لمكة، مع التركيز على التغيرات التي شهدتها المدينة عبر الزمن. و في ورقة قدمها ضمن فعالية “تجارب روائية” المصاحبة لمعرض الكتاب الدولي بالرياض عام 2015، بعنوان “مكة التي في روحي: المقدس مسرودًا”، أشار تراوري إلى أن مكة تمثل جزءًا لا يتجزأ من هويته الأدبية والشخصية. يعكس ذلك في أعماله من خلال تصويره للأزقة، الحارات، والمساجد، مما يمنح القارئ تجربة غنية ومتكاملة عن الحياة في هذه المدينة المقدسة. و تُبرز أعمال تراوري الأدبية مكة كمكان حي ينبض بالحياة والتاريخ. يُظهر من خلال سرده كيف تتداخل الحياة اليومية مع الروحانية التي تتميز بها المدينة، مما يعكس فهمًا عميقًا لتفاصيلها وخصوصيتها. ، وتبدو رجاء عالم في روايتها هذه قد تجاوزت ذلك إلى أبعاد أكثر غوراً وبرؤية مختلفة وفي سياق مغاير. وقد بدا واضحا أن رجاء عالم ؛ فضلاً عن نزوعها نحو النسوية (رؤيةً و منهجاً) قد تمثلت في الرواية تأثيرها(أعني النسوية) في مرحلة ما بعد الحداثة من خلال تركيزها على الذات النسائية والتفاعلات المعقدة التي تجمع بين الهوية والتقاليد والتحرر، ولا تقدم الرواية نموذجاً واحداً للمرأة، بل تُظهر تنوع تجارب النساء والصراعات التي يواجهها كل منهن وفقًا لظروفهن الخاصة. والنسويّة في مرحلة ما بعد الحداثة تعيد التفكير في المفاهيم التقليدية للجندر والهوية وتطرح أسئلة حول كيف يمكن للأفراد أن يعيشوا ويعبروا عن أنفسهم بعيدًا عن القيود الاجتماعية والثقافية التقليدية، إنها تدعو إلى إعادة تقييم الهويات والبحث في تنوع التجارب الإنسانية، متمركزة حول فكرة أن الهوية الإنسانية ليست ثابتة أو نهائية، وتدعو إلى إنصاف المرأة والدفاع عن حقوقها وتطورت عبر مراحل متعددة وقد تمثّبلت قي هذه الرواية في : الصراع مع التقاليد: النسوية في “باهبل” لا تقتصر على رفض التقاليد أو التمرد عليها بشكل مباشر، بل تبرز الصراع الداخلي بين التمسك بالتقاليد والـرغبة في التحرر،و كل شخصية تتعامل مع هذا الصراع بشكل مختلف. و الشخصيات النسائية في “باهبل” تُظهر تمردًا، لكن ذلك لا يتم في سياق الانقطاع تام مع الواقع الاجتماعي. بل يظهر التمرد كمسعى شخصي ومحاولة من كل امرأة في الرواية إعادة تعريف مكانتها في هذا المجتمع ، ورجاء عالم تتناول في روايتها مسألة التقاليد الاجتماعية التي تقيد النساء وتحدّد أدوارهن في المجتمع ؛ولكنها لا تقتصر على تصوير المعاناة فقط، ؛ بل تسعى إلى إبراز محاولات النساء لتجاوز هذه القيود بطُرُق متباينة ، والرواية تظهر كيف أن المرأة، على الرغم من العوائق الثقافية والاجتماعية، تسعى إلى اكتشاف ذاتها عبر التجارب الشخصية والـخيالات والـذكريات، هذا السعي يُظهر أبعادًا من نسوية ما بعد الحداثة، حيث الهويّة النسائية مُركّبة وليست ثابتة أو أحادية ، وسلوك الشخصيات النسائية في الرواية يُظهر الاختلافات الجذرية بينهن في كيفية التفاعل مع الواقع الاجتماعي، بينما قد تتبع بعض الشخصيات المسار التقليدي، تجد شخصيات أخرى نفسها في حالة من التساؤل والرفض للأنماط الجندرية التي تُفرض عليها،علاوة على ذلك، تعكس الرواية فكرة الهوية المتعددة والمتغيرة، حيث المرأة تتنقل بين الأدوار المختلفة في المجتمع والخيالات والذكريات الخاصة بها، ما يعكس النسوية ما بعد الحداثة التي ترفض أن تُحدد الهوية النسائية داخل إطار ثابت أو واحد.؛ فشخصية (حورية) على وجه الخصوص تُظهر تأثير الذاكرة في الهوية النسائية الذاكرة والتاريخ الشخصي يُعدّان جزءًا أساسيًا من التحرر في الرواية ، و تجارب المرأة الشخصية تشكل أداة لإعادة بناء ذاتها، مما يعكس فكرة النسوية التي تدعو إلى إعادة التفكير في تجارب النساء وتقديم صوتهن الشخصي بعيدًا عن الصور النمطية السائدة. وأبرز الشخصيات النسائية (الجدة نازك) تُمثِّل الجيل الأقدم في العائلة، وتُجسِّد التقاليد والعادات المكية الراسخة. تُظهر الرواية دورها المحوري في نقل القيم والتقاليد إلى الأجيال اللاحقة و(الأم سكينة) تُعبِّر عن الجيل الوسيط الذي يواجه تحديات التوفيق بين التقاليد والتغييرات الحديثة التي تُظهر الرواية صراعاتها الداخلية ومساعيها للحفاظ على تماسك العائلة وسط التحولات الاجتماعية.: تُركِّز الرواية على تجاربه بنات السردار الفردية والجماعية، مع استعراض التحديات التي واجهنها في مجتمع مكة التقليدي. تُبرز الرواية سعيهن لتحقيق الذات والتعامل مع القيود المجتمعية عالم هذه الشخصيات بتفاصيل نفسية وجسدية مميزة، مما يجعلها حية في ذهن القارئ. تُستخدم اللهجة المكية المحلية في حوارات الشخصيات، مما يعزز الإيهام بواقعية الشخصيات. وتُشكِّل هذه الشخصيات العمود الفقري للرواية، حيث تُستعرض من خلالهن التحولات التي شهدها المجتمع المكي بين عامي 1945 و2009. تُظهر الرواية كيف أثَّرت هذه التحولات على حياة النساء، مع التركيز على نضالهن المستمر لتحقيق مكانتهن في مجتمع محافظ.. ورواية “باهبل” تقدم نقدًا اجتماعيًا عميقًاً للعوائق الثقافية التي يواجهها النساء في المجتمع السعودي، وتستعرض الصراع الداخلي لشخصيات نسائية تناضل من أجل التحرر من القيود التي يفرضها المجتمع. ، تطرح الرواية أسئلة حول الهوية والحرية وكيف يمكن للفرد، وخاصة المرأة، أن يجد مكانه في عالم متغير، و الرواية تقدم صورة مركبة ومعقدة للنساء في مجتمع تتباين فيه ثقافة المجتمع بين التقاليد الموروثة و تُستخدم الشخصيات الذكورية كوسيلة لتسليط الضوء على تناقضات النظام الأبوي التقليدي وصراعاته مع متطلبات الحداثة من خلال شخصية (مصطفى السردار) التي تُجسّد سلطة الماضي وبقية ذكور العائلة ، وشخصية (عباس) المتأرجحة بين تقاليد الأب والبحث عن الحرية الفنية والنفسية، تُقدم رجاء عالم رؤية نقدية معقدة للذكورة التي لا تتلخص في القوة والسيطرة فقط، بل تمتد لتشمل الصراع الداخلي والتحوّل والبحث الدائم عن هوية تتجاوز القيود التقليدية.لحداثة . والعنوان ( باهبل) له دلالة رمزية عميقة في سياق الرواية و”باهبل تعبير عامي في اللهجة السعودية وبعض اللهجات الخليجية، ويعني “أفعل الشيء بحماقة” أو “بتسرع” أو “بدون تفكير” قد تُستخدم الكلمة أيضًا لوصف التصرفات غير المدروسة أو غير المنطقية ، و الكلمة تحتوي على نوع من الاستهجان أو التقليل من شأن الفعل ، ولعلها تستدعي إلى الأذهان أيضاً الصنم المعروف (هبل) وما يوحي به من معنى يعضد الدلالة التي أشرت إليها ، فيشير هذا العنوان إلى التمرد أو السلوك غير التقليدي الذي قد يكون مستهجناً في إطار المجتمع السعودي الذي تحكمه الأعراف والعادات وفي “بَاهَبَل”، نجد تجربة سرديّة أكثر تعقيدًاً حيث تتداخل الواقعية مع الفانتازيا، وتتنقل الرواية بين أزمنة وأمكنة مختلفة، مع إضافة عنصر (الكون المتعدد)، مما يضفي على العمل طابعًا خياليًا وفلسفيًا، بعيدًا عن التقيد بالسرد التقليدي. وجميع روايات رجاء عالم تركّز على المجتمع السعودي وخصوصًا المدينة المقدسة (مكة) لكنها في هذه الرواية تتناول مكة بمقاربة جديدة من خلال الزمن والتاريخ. في “بَاهَبَل”، حيث يشهد القاريء مكة من أكثر من زاوية وأكثر من فترة زمنية (من عام 1945 إلى 2009)، مع إدخال تأثيرات متعددة الثقافات ، وهذا التناول يجسد تطور المدينة وما شهده المجتمع من تغيرات دينية، اجتماعية، وعاطفية عبر تلك السنوات، وتبدو النزعة التاريخيّة أكثر وضوحا و أقرب إلى الوثوقية ؛ ولعل هذا ما دفع إلى التساؤل حول العمل ونسبته لصاحبته لأنه يغاير المألوف في نهجها الرؤيوي المعتاد. وتتميز لغة الرواية بثرائها وتنوعها، حيث تمزج الكاتبة بين الفصحى واللهجة المحلية المكية، مما يعكس البيئة الثقافية والاجتماعية لمكة المكرمة خلال الفترة الزمنية الممتدة من عام 1945 إلى 2009. هذا التنوع اللغوي يُسهم في تقريب القارئ من الشخصيات والمواقف، ويُعزِّز من واقعية الأحداث. وتُوظِّف رجاء عالم تقنية تعدد الأصوات السردية (البوليفونية) بمهارة، حيث تمنح كل شخصية مساحة للتعبير عن وجهة نظرها ومشاعرها، مما يُضفي عمقًا على السرد ويُبرز التنوع في التجارب الإنسانية داخل المجتمع المكي. هذا التعدد يُتيح للقارئ فهمًا أعمق للشخصيات ودوافعها، ويُساهم في بناء حبكة معقدة ومترابطة. ولعل فرصة أخرى متاحة لاستيفاء ما تستحقه هذهىالرواية من اهتمام