إشكالية المنهج في القراءة النقدية..
القراء النقدية ممارسة تفاعلية استكشافية تذوّقية تأويلية والنقد رؤية فلسفية وخطوات إجرائية ومدارس متعددة.

ثمة سؤال يطرح نفسه عبر هذه القراءات النقدية التي تهدف هذه الزاوية لتقديمها؛ كان لا بد من التوقف عندها لفهم منهج القراءة وكيفيّاتها ؛ مع التمييز بين النوع الأدبي الذي تنتمي إليه شعراً كان أوسرداً أو نقد النقد في حيز لا يتجاوز في أحسن الأحوال حدود الألف ونيف من الكلمات ؛ و كنت قد قدمت مقالين في هذا المجال من قبل و ربما زيادة في أوقات متفرقة ؛ ولعل من المفيد أن أعود لمقاربة هذا الموضوع لتتضح الصورة أكثر ، ومن حيث المبدأ فإن القراءة النقدية قراءة متأنية للنص أو العمل الفني مع محاولة فهمه بعمق واستكشاف الرؤى التي يعبر عنها النص . وما تتميزبه من خصائص (أسلوبية، فكرية، ثقافية، اجتماعية) والتفاعل مع النص واستنطاقه وآفاقه ترميزاًوتأويلاً وفق منهجية يفرضها النص بما ينطوي عليه من طاقة تعبيرية وتمثيلية و تشكيلية . أما النقد فهو ينهض على مبدأ أساس وفلسفة يفرضها المنهج الذي يختاره الناقد ضمن ثلاثيّة التقسيم المنهجي المعروف (المناهج السياقية) و المناهج النّسقية (الحداثة) و(ما بعد الحداثة) ومن زاويتين رئيستين : تنظيريّة و تطبيقية ؛ فالنقد النظري يستثمر النصوص بوصفها نماذج يستنبط منها أسس نظرية فلسفيّة يستقرؤها ويستدلُّ بها؛ بينما يقوم النقد التطبيقي على التحليل الذي يستند على مخرجاته في تقييم للأعمال الأدبية أو الفنية أو الفكرية بناءً على أسس فنّية وقواعد معينة تشكل نظرية حاكمة. يمكن أن يكون النقد إيجابيًا أو سلبيًا ويهدف إلى تحديد قيمة العمل من وجهة نظر فريق من النقاد؛ أما الفريق الآخر فهو لا يعتدُّ بالمقاييس وإنما يركّز على التحليل بوصفه حاملاً لقيمة ضمنية ، سواء من حيث جودته أو تأثيره أو مدى نجاحه في تحقيق أهدافه ؛ أما القراءة النقدية فهي عملية تفاعلية استكشافية تهدف إلى فهم النص من جوانب متعددة وربما إ؟عادة إنتاجه في نصٍ موازٍ. وقد شغلت النظرية التقدية أذهان النقد فاعتبرها البعض أدباً وصفيّاً يناط به تفسير العمل الأدبي وفق تصور ماهيته و وظيفته كما نلمس في كتاب (ت .س .إليوت) فائدة الشعر و فائدة النقد، وكتاب (إيفور ونترز) وظيفة النقد ، وهو يميز في كتابه (مشكلات النقد الحديث) بين الأنواع الأدبية على أساس القيمة أما (نورثروب فراي) في كتابه( تشريح النقد) فيناقش علمية النقد و فنيته. أما النقد البنيوي فيركز على علميّة النقد كما يتضح في عَنْوَنة تودروف لكتابه ب(البيوطيقا) أي علم الشعر؛ والمنزع الفني قي النقد أميَل إلى الوظيفة التفسيريّة لا التقويمية ، وإذا تجاوزنا النقد القديم إلى النقد الحديث فإننا نجد أن مدرسة النقد الحديث بشقيها (الأمريكي و الأوروبي) يتّبع نظرية أرسطو الكلاسيكية الذي يرى أن الأدب يجب أن يُدرَس على أنه ظاهرة مستقلة لها خصائصها المميزة بغض النظر عن الزمان و المكان أي (القوانين العامة للأدب بمعنى آخر (شعريّته التي هي مناط هويته و خصوصيته) وفي إطار آخر أكثر عمومية لفهم النص وفق رؤية رومانسية تستبدل القيم التقليدية المطلقة عند الكلاسيكيين بالقيم الذاتية لدى الناقد كما هي في النص ، وقد عبر ذلك شكري عياد حين أشار إلى نقد يحيى حقي الذي يندمج مع النص اندماجا صوفيا على حد تعبيره ، وذلك كما تصوّرَه (كولردج) ففي مقابل الحديث عن القانون الأدبي المستمد من الطبيعة عند الرومانسيين جاء من يتحدث عن استنتاج القوانين الطبيعية للأدب عند النقاد الجُدُد الذين يركّزون على (الشعريّة) في المقام الأول ، وهناك من يفرق في تصنيف علمية النقد بين القواعد التي يستند إليها الناقد و القوانين ، فالقواعد تخفّف من صرامة العلميّة في النقد ح ولكنها تضبط مساره ؛ فهي تكون غير رسمية أو غير مكتوبة في الغالب، ويمكن أن تكون مجرد توصيات أو إرشادات للسلوك، مَرِنة قابلة للتعديل؛ بينما القوانين صارمة تترتّب عليها المحاسبة ، وهذا ما عمد إليه من يُعرفون بالكلاسيكيين الجُدُد الذين ينحدّثون عن (المعادل الموضوعي) و (المفارقة) و(الاتساق ) و( الانسجام) و التوتر) و (الذوق) وهذا ما تشير إليه مدرسة ( شيكاغو النقديّة) غير أن هناك من يرى أن الذوق يمكن أن يَحل محل القواعد و القوانين في النقد الأدبي، وفي اعتقادي أن ذلك لا يستقيم إلا إذا كان مُتكئا على قواعد يستند إليها الذوق في العملية النقدية وإلا كان انطباعيّاً متحرّراً من كل المفاهيم؛ وعلى ذلك يبدو الذوق مهمة وسطيّة بين التفسير و التقويم مِصداقاً لما ذهب إليه إحسان عباس في تعريفه للنقد بأنه (وساطة بينيّة بين الكاتب و القاريء) وهو ينهض على التمييزبين الأساليب عند محمد مندور، وهذا ليس كل ما هنالك فيما يتعلق بمسألة التفسير و التقييم ، ومهما تكن القيم التي يستند إليها النقد فهي نسبيّة وليست مطلقة ، والقيم الجمالية في الأدب التي يحتفل بها النقد غير مُنبتَّة الصلة عن الوجود المادي للإنسان جسديّاً وعقليّاً و وجدانيّاً وحاجاته الحيوية وهي التي تحدد الأشكال الفنيّة كافّة ؛ وهناك من عبّر عن ذلك حين أشار إلى الأهرام بوصفها عملاً فنيّاً تعبّر عن نمط سياسي واجتماعي من حيث الضخامة تعبيراً عن نظام مُحكم وقوى كونية محجوبة عن أعين البشرمقارنةً ببرج إيفل في باريس الذي يعبر عن برجوازيّة صناعيّة تنشد الصعود في رشاقة ؛ كذلك فإن الأحكام الذوقيّة شديدة الصعوبة كثيرة الخطأ ، فالأحكام الذوقيّة تعتمد على الاستجابة المُدرّبة و المعرفة الغزيرة وفقا لما أشار إليه (نورثروب فراي) في كتابه المهم (تشريح النقد ) ثمّة قيم جماليّة عامة تتمثل في المماثلة و المقابلة ، و من المماثلة (التكرار) وقد عدّه جون مدلتون أصل الإيقاع ؛ وأما التماثل فاعتبره(إزراباوند) من عناصر جماليات الشعر الغنائي ؛ المشاكلة (السجع و الجناس و القافية) فهي قيمة من القيم الجمالية الكبرى في لغة الشعر كما يرى (ياكبسون) في كتابه (علم اللغة و علم الشعر) وقد اعتمد البنيويون على (المقابلة) في تحليلهم للعلاقات بين عناصر البنية، وكذلك فيما يتعلق بالصراع الذي يعد أساس (الدراما) وعنواناً للوعي التاريخي عند الماركسيين. أما نقد النقد فيتمثل في اتجاهات ثلاثة: فينومينولوجي (علم الظواهر) وينصب على التفسير، والاتجاه السيمولوجي (علم العلامات)أو علم الرموز ؛ فالأدب وفقا لذلك نظام من العلامات ، وثمة اختلاف بين السيمولوجيا باعتبارها (لغوية) تنظر إلى اللغة في ذاتها ،والسيمانتيكا باعتبارها (دلالية) بحيث تكون العلامة لها دلالة متعارف عليها بين المرسل و المستقبل. والثالث (سيكولوجي) نفسي يقوم على رصد استجابات القاريء، حيث يتمثّل القاريء النص الأدبي وفق فكرة مسيطرة. ولعل ابعاد التجربة الجمالية تتمثّل قي النظر إليها من زوايا ثلاث :جانب اللذة (المتعة) والاكتشاف (طلب المعرفة) و الاهتمام (ما تثيره من مشكلات) والإبداع لا يتم إلّا من خلال نُظُم لُغويّة و أدبيّة ، ولا يتحقّق إلا باشتراك الكاتب و القاريء ، والنقد يدرس خصائص النشاط الإبداعي في عمليتي الكتابة و القراءة من خلال الحركة بينهما ؛ وقد صور الناقد الإنجليزي (ف. و .بيتسون) تَخلُّق الإبداع على شكل دورة تبدأ من الخاطرة أو الشطحة الخيالية ، ثم الصورة المُشتّتة التي لا تلبث أن تتجمّع في تشكيلٍ معيّن أو أسلوب محدّد، ثم في كلمات وفق علاقات نحوية في نص مرقوم ، حيث يتم الجزء الخاص بالكاتب (فكرة ثم صورة تتحد مع الفكرة ثم تجسيد لفظي باطني ثم تعبير لغوي) ثم تكتمل الدائرة بدور المتلقي من حيث الانجذاب إلى قراءة العمل وفق تقييم مبدئي تلقائي، ثم اندماج عبر الاستغراق في التلقي و الفهم و التأثر وتفاعل تقويمي عبر التنبّه والتلذُّذ والتأمُّل وفك الشيفرة للنفاذ إلى الرؤى و الأفكار؛ ولكن هذه الدورة الإبداعيّة كان عليها الكثير من الملاحظات ، وقد حلّل (رولان بارت) عملية القراءة على النحو التالي : العثور على المعاني عبر القراءة ثم تسميتها وتتداعى عبرها معانٍ أخرى تتجمّع ثم تتبلور عبر تجلّيات عِدّة، وتظل التسمية للمعاني في حالة حراك وصيرورة ، وهي لاتتناول إلا الجانب الأفقي كما يرى النقاد فهو لا يحاول الغوص إلى العمق (الجوهر) و ينكر وجود فكرة أصليّة في العمل.وثمة من يصنف النقد في ثلاثة أنواع : (انطباعي) ينظر إلى النص على أنه مثير جمالي، يبعث جملة من المشاعر و الخواطر و الذكريات الممتعة ، ونقد (تكنيكي) يتعامل مع الصنعة الفنيّة، وهي صنعة خالية من القيمة الفكرية أو الجمالية ، والنقد الجديد ميّال إلى ممارسة هذا النهج، ثم (النقد الخالق) الذي ينتج أثراً أدبياً موازياً يدخل في صلب النص ويشارك في إئشائه. إن منظور القاريء الناقد يستشرف مقولة بروست :”إن جلال لفن الحق إنما يكمن في اكتشاف الواقع والسيطرة عليه ورؤية الحياة مرة أخرى” واللحظة الجماليّة تقع على تخوم الوعي وهي أرسخ في بنية الإنسان العقليّة من الفلسفة ، ولعل ما شجر من جدل حول علاقة الشعر بالمعرفة و الأخلاق فيه غفلة عن حقيقة اللحظة الجمالية التي قد تستعصي على التوصيف ؛ فالقاريء الناقد يستشعرها في تجلّياتها النصّية دون أن يقبض عليها في صياغة منطقيّة محدّدة، ولعل ما انتهى إليه فرويد بعد أن تقدم به السن إلى أن يستبدل بما سبق أن أشار إليه في نظريته عن المكبوتات في اللاوعي ومبدأ اللذة و الليبيدو (غريزة الحياة و الموت) وما أفضى إليه ذلك من اتصال بين الإنسان والكون وانفصاله عنه ، وقد شرح ذلك بالنزوع إلى التحقّق (الحياة) والارتداد إلى الداخل مستقره النهائي في جوف الأرض (الموت) متمثّلا قول الشاغر اسماعيل صبري : إن سئمت الحياة فارجع إلى الأر ض تنم آمناً من الأوصاب فالفن تعبير عن نشوة الحياة وسحرها لا عن ظلام الموت وفجيعته ؛ والتجربة الجمالية تجربة حيويّة ، والعمل الأدبي يجمع بين الحرية و الضرورة في رؤية شاملة وعميقة ؛ فالضرورة من شأنها أن تكبح جماح الحرية و تحتويها ؛ هي غناء في المطلق وفق الرؤية الصوفيّة واتدرج في سلم الإشراق و الكشف . وإذا كان كل ما سبقت الإشارة إليه يقع في دائرة النظرية الفلسفية فإن النص هو المساحة الفعليّة التي يشتغل عليها النقد ؛ فقد تردّد القول عن فعل الناقد فيها بين البناء و النسيج أو المعادل الموضوعي والتوتر ؛ لقد أصبح النّص يتمتع باستقلاليته التامة وفقا لمقولة (موت المؤلف) وقد دخل تحت مظلة نظرية الاتصال ونظم العلامات وتبلور بوصف مقاربته علماً ، شأنه في ذلك شأن العلوم الاجتماعية و النفسية ، ولكنها اصطدمت بنظرية الاستقبال التي ألحّت على ذاتيته وعلى مباديء التفكيك من إرجاء واختلاف؛ ولكنه في نهاية المطاف نصّ يقوم على استعمالٍ خاص للغة ،وظيفة الناقد أن يكشف مظاهر الخصوصية فيه بمسباره المتميّز ، وأن وظيفته الاتصاليّة مختلفة عن المألوف ، ودور الناقد في معالجته دور المفسر المشارك ، وفي هذا فصل الخطاب. وفي كتاب الدكتور شكري عياد (دائرة الإبداع) و ماتلاه من كتب (اللغة والإبداع) و(بين الفلسفة و النقد) ما يزيد المسألة تفصيلاَ و وضوحاَ.