حوار مع الروائية الفرنسية آن بوريل ..

سعدت بترجمة أعمالي إلى «العربية» التي تمنيت تعلمها في سن مبكرة.

تعرفتُ على مشروع الروائية الفرنسية آن بوريل من خلال صديقي الفرنكفوني عاطف الحاج الذي التقيته في تشاد، فقد عكف عاطف على ترجمة أعمالها إلى اللغة العربية: حانة جران مدامز (2023)، غواية الثلج (2023)، ملك الليل والنهار (2024) بتشجيع من دار ويلوس هاوس بجنوب السودان، تتميز آن بوريل بحبها للعالم العربي وثقافته، وكانت سعيدة جدا بترجمة أعمالها، فهي ترى أن الترجمة تُقرِّب البشر إلى بعضهم وتذيب تلك الثنائيات التي تجعلنا في مقابل بعضنا وكأننا في مبارزة، فإلى الحوار: مدام آن بوريل، في بداية هذا الحوار، أريد منك أن تقدمي نفسك للقراء العرب؟ أنا روائية وكاتبة قصص قصيرة، تُنشر أعمالي في فرنسا وتُترجم إلى العربية. تستكشف كتاباتي موضوع العنف من زوايا متعددة. رغم أن كل كتاب لي يختلف عن سابقه، إلا أنني أمد خيوطًا تربط بينها، وبعض شخصياتي تظهر في أكثر من رواية. على سبيل المثال، في حانة جران مدامز Gran Madam’s نجد شخصية علي طالبي، الطالب الشاب الذي يعمل كحارس ليلي في محطة وقود لتمويل دراسته، ثم نراه لاحقًا طبيبًا ريفيًا في غواية الثلج L’invention de la neige. يعتبر العنف من الموضوعات المثيرة للاهتمام، خاصة في عالم اليوم الذي يزداد عنفه الحقيقي والرمزي أيضا، ويحاول الأدب استكشاف هذه الظاهرة التي صاحبت البشرية في كل مراحلها، كيف تعملين على معالجة هذا الواقع أدبيا؟ أحب أن أرفع بساط الواقع لأكشف ما يختبئ تحته من مناطق مسكوت عنها، وأهوى استكشاف الحدود الفاصلة بين الحلم والواقع، والتعمق في المناطق الرمادية للحياة. رواياتي فضاءات مشحونة بالتوتر، حيث تسعى اللغة إلى التقاط اللامرئي بقدر ما تمسك بالمحسوس. غالبًا ما يُقال لي إن أسلوبي في الكتابة سينمائي، لكنني أعتقد أن السينما هي التي تميل في كثير من الأحيان إلى الأدب. الكتابة الروائية مغرية جدا، لأنها تعطي الكاتب مساحات واسعة لمعالجة الموضوعات المعقدة تعقيد الحياة، فهي عنوان الإبداع العصري، وهي الجنس الأدبي المحبب للقراء، هل تمارسين إبداعك في ميادين أخرى غير الكتابة الروائية؟ أكتب أيضًا للمسرح، وأستلهم أعمالي المسرحية من الحركة والرقص، حيث أمزج الفلامنكو والتانغو والرقص المعاصر. نصي المسرحي جواليتشو Gualicho يلقى صدى واسعًا على خشبة المسرح منذ أكثر من عقدين، بفضل أداء راقصة الفلامنكو كاثيا بوزا والممثلة والمخرجة تشارو بيلتران نونيز. نحن نتعاون بشكل مستمر، ويضفي عملها على الجسد وطاقة الحركة كثافة خاصة على نصوصي. بالنسبة لي، المسرح فضاء نابض بالحياة، حيث تلتقي الكلمة بالرقص، ويمتد النص في الحركة، مكونًا شكلاً آخر من السرد. في عالمنا العربي يتحرّق الكثير من الكتاب شوقا لرؤية أعمالهم مترجمة إلى لغات أخرى، نحن نتوق للتواصل مع الآخرين، نود أن يقرؤوا لنا كما نقرأ لهم، ويتعرفوا على ثقافتنا كما نعرف نحن الكثير عن ثقافاتهم، كيف كان شعورك عند رؤية أعمالك تُترجم إلى العربية؟ الكتاب المترجم هو رحلة عبور. رؤية نصوصي تنتقل إلى لغة أخرى وثقافة مختلفة تجربة مذهلة اصابتني بالدوار. لكن الترجمة أيضًا شكل من أشكال التجرد؛ فالكاتب يفقد السيطرة على نصه، ويودع أنفاسه لدى شخص آخر، هو المترجم. شعرت بامتنان عميق وتواضع كبير أمام هذه العملية من النقل والإيصال. حتى لو فقدنا السيطرة على أعمالنا الفنية، أليس رائعا أن تنتقل كلماتنا من لغة إلى أخرى، ومن لسان إلى آخر يختلف عنه كثيرا أو قليلا؟ تثيرني فكرة التنقل بين اللغات بشدة، لأن كل ترجمة تمنح النص حياة جديدة، وتفتح بابًا لإعادة استكشافه. تجربة الترجمة، سواء قام بها شخص آخر أو الكاتب نفسه، هي دائمًا نوع من الانتقال وإعادة الخلق. من اللافت أن جميع أعمالك المترجمة إلى العربية نُشرت تقريبا عن طريق دار النشر ويلوس هاوس Willows House في جنوب السودان، والتي تديرها الناشرة النشطة غاتا. كما شاركتِ معها في معارض كتب عربية. هل يمكنكِ أن تحدّثينا عن هذه التجربة وما الذي أضافته لكِ ككاتبة غربية؟ العمل مع غاتا يمبا هو مغامرة أدبية وإنسانية. إنها ناشرة نشيطة، دائمًا في حركة، وشغفها بالأدب مذهل. حظيتُ بفرصة مرافقتها إلى معرض القاهرة الدولي للكتاب، وكانت تجربة استثنائية مكّنتني من لقاء جمهور فضولي وشغوف بالأدب. لكنني أتمنى أيضًا أن أرافقها إلى السعودية، الإمارات، الشارقة، أو أي مكان آخر، فهذه الفعاليات تتيح فرصًا لاكتشاف آفاق جديدة وأساليب مختلفة في القراءة والتفكير في الأدب. هنالك لحظة مثيرة لكل كاتب تقريبا، اللحظة التي يرى فيها غلاف كتابه الجديد مستعيرا عيني قارئه المحتمل، كيف كانت دهشتك عندما أرسلت لك دار النشر غلاف أول رواية لك بالحروف العربية؟ أنا فخورة جدًا بترجمة أعمالي إلى اللغة العربية، هذه اللغة الجميلة والغنية التي تجمع بين العديد من البلدان. كنتُ أتمنى لو تعلمتها في سنّ مبكرة في المدرسة، لكنها للأسف لم تكن جزءًا من المناهج الدراسية. من الجيد أنها بدأت تُدرَّس في بعض المدارس الثانوية مؤخرًا، لكنه أمرٌ كان يجب أن يحدث منذ زمن وبشكل أوسع. لو تعلّمنا في أوروبا المزيد عن اللغة والثقافة العربية، لاكتشفنا كم نحن متقاربون، ولربما تجنبنا الكثير من التطرف وسوء الفهم. فكلما تعلّمنا النظر إلى بعضنا البعض بوضوح، قلَّ شعورنا بأننا أعداء. أعجبتني هذه النظرة كثيرا، لدينا مقولة مشهورة أنّ من تعلم لغة قوم أمن مكرهم، ويمكن أن يكون الأمن من المكر بالتفاهم أيضا، هل اللغة أداة للحب أيضا؟ نعم، تعلمتُ هذا الدرس مبكرًا من جدي. لم يكن رجلًا مثقفًا أو أكاديميًا، بل كان حدادًا بسيطًا لم يُكمل دراسته. أثناء الحرب العالمية الثانية، قضى خمس سنوات أسيرًا في ألمانيا بين عامي 1940 و1945. عندما كنتُ طفلة، طلب مني أن أتعلم الألمانية، ليس من أجله، بل كي لا تكون هناك حرب أخرى بين شعبينا. كان يحتفظ بدفتر صغير من سنوات أسره، يدوّن فيه الكلمات التي كان يتعلمها يومًا بعد يوم. رغم أن التعليم في صغره كان يلقنه أن الألمانية “لغة العدو”، اكتشف بنفسه أن هذا كان كذبًا. لم تكن اللغة تحمل الكراهية، بل كانت وراءها أناس يشبهونه، رجال ونساء لم يكونوا جميعًا نازيين، بل كانت لديهم أصوات تستحق أن تُسمع. أفكر كثيرًا في هذا الدفتر عندما أرى كيف أن الحواجز الخفية لا تزال تُبنى بيننا اليوم، بحجارة الجهل والخوف من الآخر. وربما لهذا السبب تلمسني الترجمة بعمق: فهي شكلٌ من أشكال التواصل الذي يهدم هذه الجدران، ويقرب بين عوالم كنا نظنها بعيدة. حتى الآن، تُرجمت ثلاثة من رواياتي إلى العربية عن طريق ويلوس هاوس ، إضافةً إلى مجموعة قصصية بعنوان Superstition، التي قمتُ أنا نفسي بترجمتها إلى الإنجليزية. كما نشرت روايتي غواية الثلج بواسطة الكاتبة والناشرة المصرية دينا قابيل، التي أكنّ لها احترامًا كبيرًا، وهي صحفية في الأهرام ومؤسسة دار مرايا للنشر في القاهرة. في عام 2024، حصل الكاتب والمترجم السوداني عاطف الحاج على منحة المترجم المقيم من المركز الوطني للكتاب في باريس لترجمة روايتك ملك النهار والليل. برأيك، ما أهمية هذه المبادرات في تعزيز التفاهم الثقافي بين الشعوب؟ هذه المبادرات ضرورية للغاية. فاللغة ليست مجرد أداة تواصل، بل هي حاملة لرؤيتنا للعالم، لطريقة في التعامل مع الزمان والمكان، ومع المشاعر. الترجمة تتيح الانتقال من رؤية إلى أخرى، ومن منظور إلى آخر. دعم هذا العمل يعني بناء جسور في الأماكن التي يمكن أن تُقام فيها جدران. لكن للأسف، هذا العام تعرضت الثقافة لضربات موجعة بسبب التخفيضات الحادة في الميزانيات. ففي عام 2025، سيتم تقليص الميزانية المخصصة للثقافة في جميع أنحاء فرنسا، بل وفي إقليم هيرو حيث أعيش، ستكون الميزانية صفرًا. نعم، صفر! لم أكن لأتصور يومًا، وأنا على قيد الحياة، أن أشهد هذا التخلي التام من قبل السلطات عن الثقافة، في بلد لطالما ألهم العالم بتفرّده الثقافي. لقد استسلمنا أمام صعود التطرف، ودخلنا في أوروبا، وفي العالم الغربي عمومًا، مرحلة من انكماش الفكر وتصاعد الشعبوية، مما لا يبشر بخير للسنوات القادمة، وفي وقتٍ نحن في أمسّ الحاجة إلى تعزيز التبادل الثقافي وتشجيع تدفق الأفكار والأصوات المتعددة، نجد أنفسنا أمام تراجع مخيف. لذا، فإن مبادرات مثل إقامة عاطف الحاج تصبح أكثر أهمية من أي وقت مضى، فهي بمثابة فعل مقاومة ضد هذا التوجه نحو الأحادية وإفقار النقاش الثقافي. لاحظتُ أيضًا أن جميع ترجماتك إلى العربية أنجزها عاطف الحاج، كيف كانت تجربتكما في التعاون؟ كانت أول ترجمة لأحد كتبي إلى العربية من إنجاز سلمى شول، وهي مترجمة مغربية شابة تقيم في طنجة. قامت بترجمة الضيف الأخير، فاتحةً بذلك الباب أمام انتشار نصوصي في العالم الناطق بالعربية. ثم تولّى عاطف الحاج، المترجم والروائي السوداني المقيم في تشاد، مهمة ترجمة أعمالي بالكامل. نحن على تواصل دائم، وقد أتاح لنا لقاؤنا في فرنسا بفضل المنحة فرصة لتعميق تعاوننا. حدثته عن مصادر إلهامي، وعن هذه المنطقة المتوسطية التي تستحوذ على خيالي، مؤخرًا، بدأ أيضًا بترجمة بعض قصصي القصيرة، ومن بينها نوفيلّا صدرت حديثًا عن دار “أوروس” بعنوان تاكويّاكي. ومع مرور الوقت، انغمس بعمق في عالمي الأدبي، متقنًا إيقاع الجمل وتوتر الصور. إن المترجم المخلص يصبح بمثابة مرآة، لا يكتفي بنقل النص، بل يفسّره، ويعيد تشكيل ظلاله بنوعٍ من الحساسية التي تنمو كلما ازداد تماهيه مع أسلوبي وثيماتي. إنها عملية حوار دقيق، وعمل مزدوج يجمع بين التكييف والنقل.