قراءة في رواية أثير عبد الله النشمي (ذات فقد)..
بين أحادية الصوت وغلبة الخطاب على القص وتقاطع الرواية مع السيرة.
اللافت في ها العمل الروائي ما جاء في الإهداء و الاستهلال ؛ أمّا الإهداء ففيه نصٌّ تتعمّد فيه الكاتبة الإشارة إلى أنه لابد من أن تتّسق الهدية مع المُهدى إليه ولأن العنوان يشير إلى ( الغياب) فلابد أن يُهدى إلى الغائبين وهم الأموات ، وهذه إشارة أولى إلى الطابع الفلسفي للرؤيا في هذا النص الروائي. أما الاستهلال فقد تبدّت فيه معالم الرواية سرداً نوعيّاً ورؤيةً ومنهجاً في التعبيرو التشكيل ، في صورة مؤطّرة متكاملة الأبعاد ؛ فثمّة إشارة واضحة إلى أنها رواية سيريّة أولى ، علاماتها الواضحة الإشارة إلى تاريخ ميلاد الساردة بضمير المتكلم ( 1984) التي تتطابق مع تاريخ الميلاد الحقيقي للكاتبة ، كما أن بؤرة السّرد تنطلق من الذات الساردة وتحمل قسمات وجدانية مُبحرة في التعبير عن الخلجات الباطنيّة التي تتقصّى عوالم الداخل ونبضها الذي لايرصده إلا من ينبثق من أعماقه ، حيث تلامس السّاردة أدق الدقائق النفسية ، وتسجلها بشفافيّة وتتلمّس تضاريسها وترسم معالم حياتها الأسريّة مكاناً وزماناً، وتهتم بتقرّي ملامح المكان والشخصيات المحيطة ، وتحصي حركاتها وخصوصياتِها وكأنها تقدم بورتريهات نفسيّة واجتماعية و مظهريّة، وتعمل طاقاتها التأويليّة في التحليل و التفسير للشخصيّات و الحركات و الوقائع ، كل ذلك في الفصل الاستهلالي الأول من الرواية. تنطلق الكاتبة من واقعة موت الأب الذي جاء مرتبطاً بإلحاح الأم على قضاء احتياجاتها التي أدت إلى وقوع الحادث الأليم وتسبّب في موت الأب وفقده إلى الأبد ، وهنا تكمن اللحظة الحرجة التي تنطلق منها الحبكة الروائية مُتتشكِّلةً في فضاء السرد ، وتنبت المفارقة القدريّة التي تتمثل منهج الرواية القائم على ثنائيّة الخطاب السّردي و الفكري فتستوقف الساردة للتأمل، وذلك طابع الرواية التي تزدوج فيها الذاتيّة و الموضوعيّة كما هو مألوف في تشكيل بنية الرواية السيريّة حيث تستوقف السرد لصالح التأمّل ، و ما ينجم عنه من تفسير للوقائع وتأويل لها وفق تصور الذات الكاتبة ، فموت الأب يفرز تصوّرات تفسر نوعيّة علاقة الذات مع من حولها ، فبعد فقد الأب أصبحت (ياسمين الساردة ) محظيّة عند والدتها على الرغم من ردّة فعلها السلبية تجاهها لاعتقادها أنها تسببت في فقد الأب . وقد اختارت الكاتبة المحطّات التي يتوقف فيها السّرد لصالح التأمل والخطاب الوجداني ، حيث تخالطه رؤية فلسفية للوجود في محطته الذاتية التي تنبثق عنها الرؤية الفلسفية، وتكون مُمهّدة لانطلاقةٍ محوريّة جديدة وانعطافة رئيسة في مسار السّرد ، تمثّل ذلك في الخروج من الأزمة الكيانيّة والانعطاف بها من محطة استاتيكيّة الطابع إلى دينامية حافلة بحيويّة الحراك الشمولي الطابع من شأنه التصاعد بالوقائع إلى آفاق متعدّدة ، ولعل إغفالها للعناوين الفرعيّة للفصول و تجاهلها للترقيم يشي بتلك الدينامية في تسلسلها الملحمي و معتركها الدرامي. اللافت أن الكاتبة تعرف كيف تستغل الفجوّة السرديّة وكيف تستعيد تستحضر الساردة جوهر الموقف في سياق السرد؛ فقد أعفت الكاتبة قارئها من التفاصيل التقليديّة لعلاقة ياسمين ب(مالك) زوج ياسمين الذي اختارته لتنجو من أزمة الفقد بعد رحيل والدها وتماثل همومه مع همّها ،وقد اختارت أن تغفل سرد التفاصيل وتنفذ إلى لبابها وخلاصة ما تمخّضت عنه ، فلم تسرد تفاصيل خياناته واكتفت بالإشارة إليها ، و لم تنشغل بوقائع حياتها معه ؛ بل اختارت أن تعبّر عن ذلك ضمناً في خطاباتها التنويريّة التي تترجم فيه مشاعرها ، وتحلّل طبيعة علاقات مالك بياسمين ،وما تنطوي عليه هذه العلاقة من مفارقات تعمد إلى تفسيرها والكشف عن سر تعلّقها به رغم خياناته ، وتعمد إلى تسمية الأشياء بأسمائها دون حرج او اهتمام بما ينطوي عليه التابو الاجتماعي بثقةٍ و يقين ، ثمّة رؤية غامضة لعلاقة الساردة بمالك حيث تحاول الكاتبة التوقّف عندها دون أن تقدّم تفسيراً واضحاً لها؛ بل تظل رؤيتها رهن التأويل : “ فهذه السيرورة الغامضة المتناهية معقدّة المشاعر مبهمة الملامح ، متناقضة الأفكار ومتشابكة التفاصيل” و كما تصف الساردة مالك فغنها تلقي ظلالاً من الغموض الساحر على شخصيته تعزّزها الأوصاف الأسطورية التي وصفته بها ، مبرّرة تعلّقها به على الرغم من علاقتهما العرجاء كما تصفها ؛ فهي تخلع عليه صفات (نهاوند) و(أوركيد) وألهة الحب وملائكة العالم ، ومعروف أن نهاوند مقام موسيقي واسم مدينة وموقع معركة وأوركيد زهرة جميلة ذات صلة بالتراث الأسطوري الإغريقي . استثمرت الكاتبة تقنية الاسترجاع (الفلاش باك) لتروي وقائع التعارف بين ياسمين ومالك، و لتحدث في وعي المتلقي وقع المشاعر التي أحسّت بها بعد أن أوصلته إلى حافة اليأس من إمكان التواصل بينهما بعد مغادرته الفندق، وتلك حيلة جماليّة تشويقيّة مدهشة من معالم القص الروائي المآلوف في بناء الحبكة وبرنامج السرد في الفن الروائي ،وقد كانت قد عمدت إلى تصوير شخصية مالك عبر تفاصيل وصفيّة دقيقة رصدت وقعها في نفسها بطريقة فريدة حين فصلت بين ملامح الوجه والابتسامة ، فملامحه تناقض ما أحدثته الابتسامة من تعلّق وجداني به ، وتلك لمحة فنيّة باهرة تنطوي على مفارقة لافتة. لقد توقفت عند بعض تفاصيل حياته و موقعه في أسرته وطباعه و ملامح شخصيته وجاذبيته لها ، تماماً كما فعلت حين قدّمت شخصية( ياسمين ) في موازاة مقصودة لتسلّط الضوء على علاقة التواصل بينهما وتناقضاتها ووثوقيتها . لقد بدت المشاعر الأنثوية بوضوح ناصع في الحديث عن فترة الحمل وتصوير الموقف المتردّد لمالك الذي يمثل نموذجاً إشكالياً في تصرفاته وخياناته ، في الوقت الذي تشتدّ فيه الأزمة تعمل الكاتبة على تكثيف روافدها و يكتسي الحدث الواقعي بعداً رمزيّاً؛ ففي مرحلة الحمل تتصاعد الأزمة حتى تصل حدّ الانفصال ، ولكن نبأه يؤدي إلى الانعطاف بقرار الانفصال إلى منحىً جديد ، وكأن الواقع حمل مسوّغات جديدة لتواصل الحياة الزوجية، وفي لحظات المخاض تستكشف ياسمين خيانة زوجها ، وهاتان المحطتان كانتا مفصلين من مفاصل التحول التي حالت دون انقطاع حبل الوثاق في حياتهما الزوجية ، وقد كثّفت الكاتبة من خطابها الذاتي الذي اندفعت فيه إلى البوح به معبرة عن مشاعرها ورؤاها في تعليقها على هذه الوقائع الحاسمة في حياتها المتصّدعة الآيلة للسقوط ، ومن الواضح أن المنظور الذاتي بطابعه النسوي الذي تتمترس به يكاد يتفوّق على تحوّلات السرد في هذا العمل الروائي . والشخصيات النسائية في حضورٍ طاغٍ على الأخرى الذكوريّة التي تتّسم بطابع الغياب؛ فالوالد المتوفّى حاضر هنا بصفة الفقد و الغياب ، وكذلك مالك الذي تتحدّث عنه غائباً مشغولاً بنزواته ، وحاضراً بنفوره منها وصداماته معها في أكثر الأحيان ؛ أما الصّديقات فهنّ الأكثر حضوراً في الأزمات والمنعطفات وكأنها تلوذ بهنّ كلّما وجدت نفسها على شفا الأزمة أو الانتقال إلى مرحلة الحمل و الأمومة. لفتني الاسم الذي اختارته للزوج المنفلت من القيم الأخلاقيّة الساعي وراء المتع الدنيوية (مالك) إنه – بالفعل – المالك المستحوذ الذي لا يرى ضيراً في ارتكاب الخيانة جرياً وراء شهواته الجسدية . وكذلك (ياسمين) ومعلوم أن زهرة الياسمين ترتبط بعطرها الأخاذ بالأناقة و الرقة والرقي و الجمال الأنثوي ؛ أما الاسم الذي اختارته لطفلتها (نهار ) فهو يرمز للفرج و الضوء بعد العتمة إذ كان مولده بشارة بالتحول في حياة ياسمين و الخلاص من مأزقها. ثمة نزعة نسويّة تتجلى في حديث النفس وخطابات الذات التي تكشف عما يدور في خلد المرأة وهواجسها حينما تتعرّض للأزمة في علاقتها مع الشريك الرجل ؛ حيث تتوسع في هذا الحديث مستقصيَة لما يدور في خلدها و ما يعتريها من توتّرات و أزمات نفسية ؛ وتستنبت في حقل الأمومة شفاءً لمعاناتها و بديلاً عن خيباتها؛ إنها تلامس جراح المرأة التي تصاب في صميم أنوثتها ، ولهذا كثيراً ما يطغى الخطاب على التاريخ ( المصطلح الذي يطلقه الشكلانيون الروس على سرد الوقائع في الرواية) وقد كثرت في لغتها الأسئلة التي تتعلّق بأزماتها مع زوجها الخائن للعشرة، المستبد الذي خاب أملها فيه ، وهو ما يمكن أن نلحظه في المفارقات التي تلازم الزواج الذي يتمخّض عن قصة حب ؛ إذ تتكشف الحقائق بعد التجربة العملية عن الخيبات المريرة . وتنعكس مشاعرها على الفضاء المكاني حيث تتخذ منه موقفا لا يتّسم بالود؛ بل يحفل بالانتقاد لما تعتبره آفات اجتماعية ؛ فحين تتحدث عن مدينة الرياض تُسدد سهامها إلى طبيعة العلاقات الاجتماعية التي تسود عادة في العواصم و المدن الكبرى ؛ فهي تنعى على المدينة ما يشوبها من عزلة اجتماعية خبرتها حين لاذت بها مع طفلها ؛ وعلى الرغم من ذلك فهي تعترف بحبها لهذه المدينة ، وكأنها أصبحت في علاقتها معها في توازٍ مع علاقتها مع زوجها مالك الذي تنتقده وتخوّنه و لكنها تحبّه ، وهكذا يصبح المكان مجالا حيويّا للعواطف الأنثوية . حواريّة مطوّلة تلوذ بها الكاتبة تنشئها بين ياسمين و زوجها حول الحب حافلة بالتردّد والتساؤلات ؛ ومن الملاحظ أن الأسئلة تزدحم بها الرواية، وهي مناط القلق و الشك والاتهام تعبيراًعن أزمة مستقرّة في وعي (ياسمين) وهو ما يكسب الرواية طابعها النفسي الفلسفي النسوي ، ولغتها التأملية التي تسقط فيها فكرها على وقائع حياتها منشغلةً في الحديث عن العلاقة الزوجية ودور الإنجاب في معادلة الاتصال و الانفصال من خلال نهار الطفل الذي أضاء ليل حياتها الزوجية ، و جعل الانفصال عن الزوج أمراً عسيراً بعد أن اقتربت من حسم مصير هذه العلاقة ، فازدحمت الرواية بالتأمّلات و الأسئلة و الاعترافات و البوح في حراك نفسي متصل ، لقد اتسعت دائرة مشاعرها وأفكارها لتستوعب الهم العام فيما يتعلق بالطفال و المرضى و الطبقات المسحوقة ، وحين يضيق بها الحال تستحضر بعض الأشعار، فتستدعي نزاراً في قوله : “الحب في الأرض بعض من تخيّلنا لولم نجده عليها لاخترعناه “ فتناقشه وتعاتبه مستذكرةً أزمة الفقد التي اختارتها محوراً رئيساً في روايتها (فقد الأب) الذي تحوّل إلى عقدة قارّة ،ومع هذا فهي تعتبر وجود طفلها نهار انقلاباً على حياتها السابقة ، فنبذت العزلة واستسلمت للواقع الذي فرضه وجود نهار في حياتها مستدعيةً قول محمود درويش “ الحب يولد كائناً حيّاً و يمسي فكرةً” وقول إيليا أبو ماضي “ إن ربّ الأيتام مازال حيّاً” وفي ختام هذه الحوارات والحاديث النفسيّة التي استغرقت مساحة واسعة من المتن الروائي كانت النهاية ماثلةً كما البداية إنه الفقد حيث يطفو الطفل وكرته البيضاء فوق مياه المسبح وتكتمل الدائرة ، إنها الحبكة الدائرية التي تتمخض عنها الرؤية الماساوية ، فهل كان الصوت في هذه الرواية أحادياً عبر مونولوج ممتد يستوعب فصول الرواية كلها التي غابت عنها التضاريس المتمثلة في العناوين و الأرقام ، الإجابة واحدة فليس ثمة سوى صوت واحد هو صوت ياسمين المرأة التي تنعى حظها وسوء طالعها ؛ أما الصوت الآخر فقد اختفى ؛ والسؤال النقدي الأخير الذي يخطر على البال ، هل معنى ذلك السقوط الفني ؛ لا ليس الأمر كذلك ؛ فقد سبق أن أشرت إلى أن هذه الرواية تتقاطع مع السيرة ؛ وهي أشبه ببيان فلسفي سردي لا يخضع للتقييم الفني الخالص ؛ بل له أحكامه الخاصة كما أعتقد.