غْزّْل الروح وتبريح المشاعر على وقع طبول فرقة «سيالة» الأحسائية.

      مع فرقة “عرضة سيالة” بطرف الأحساء، أنت تستعرض ذاتك، خفة روحك التي طالما طمستها مشاغل الحياة وجديتها، فحجبتها عن البروز والتواصل. هنا أنت لست متفرجا فحسب، بل تصبح عضواً في جماعة تعاهدت على “الفرح”؛ بتحفيزه واستدراجه حتى تتضوع به أرجاء المكان، وساحة “الملعب”. تدفعك للمشاركة عوامل روحية ووجدانية عديدة، وأعمق من مجرد حالة “طربية” وخفة انطلقت من داخلك وعبرت عن نفسها بتمايلك وترديدك لكلمات “القصيد”. هو موروثك الفني والجمالي الذي نمى وتشكل خلال قرون من الزمان.. وأبعد مما تتصوره. معها، تستشعر روحك ملتفة بأرواح أسلافك، وكأنك تطلب “فزعتها” بتعزيز حالتك الشعورية الآنية. حينها ستعي أن إيقاع الطبول متداخلة، أو متناوبة، مع صوت “الطِيِرّانْ” أو الدفوف، وما هي إلا محاكاة لضرب أجنحة وخفقها لطائر أسطوري أتى لمشاركتك ونجدتك. فهي من كانت “تدوزن” دقات قلبك، فتنتظم على ما توحيه الجمل الشعرية البسيطة من كلمات.   “الهيدة”، ذلك الفن الأحسائي الجميل، يأتي إيذانا بانتهاء الفرقة من عراضاتها: هيدوا، استرقوا، فيذهب وقتها كل توتر ممكن أن يشوب روحك. تنبعث مشاعرك متراقصة لتشعرك أن في الحياة بقية لتحقيق ما طمحت له ورغبت فيه. معها أنت تترنم بأغانيك؛ بما بَعُد من أحلامك وبما انطوى عليه من نسيان، أو حسبته كذلك: ذكريات فرح قديم انبعث من قاع الروح وانتشت به، عشق طفولي نسجته مخيلتك لفتاة ليس لها وجود سوى في عوالمك الوردية... فتحضر ساعتها كل الوجوه التي لا تقبل الفردانية، بل تشاركك الرقص والغناء: أصدقائك، عائلتك، جيرانك، وحتى ذلك الرجل الغريب الذي ساعدك يوماً في إصلاح عربتك في طريق سفر موحش. طاقات كثيرة وفائضة من الامتنان تتقاسمها معهم. ذلك لأن عاطفة حب الوطن هي الجامعة لتلك المشاعر والمعبرة عنها في كلمة واحدة. كل ذلك يصبح بمثابة التهيئة وقبل لحظة سماعك لصوت المنشدين. بعدها ليس لك إلا أن تتوحد بهم، وتتغنى بشعرهم الذي تتمثل به أناك المتعالية والكبيرة التي تعملقت بذكر الوطن. تستنهضهم وتلح عليهم للمسارعة في بدء “النشيد”، والشاعر محمد بن حمود النفجان من جهته، يعاضدك ويقصر لك المسافة ويكفيك عناء التعبير: تكفون يا عيال “سياله” قوموا صفوا لنا صفين الدار عزه من رجاله رجال تحمي الوطن والدين سلمان شال العلم شاله وحنا معه في العسر واللين نمشي على أمره كما عياله ما عندنا ايسار والا ايمين والكف ما يضرب بحاله إلا مع سيف أبو حدين وسيفه محمد وخياله محمد اللي يشوق العين فسرعان ما تنهض بك الفرقة - سيالة - بعزم الوطن وذكره. هنا لا يمكنك التفريق وتمييز صوت جماعة المنشدين مع جمهورها الملتف والمتداخل بصفوفها، وكذلك صوتك، عندما ينشدون: يالله اللي نصلي له ياعالمٍ بالغيبِ والحالي والعدو ما نسويله درج وحادي وأربع اقفالي والحول ويش الحيلة ونجي من العدوان عيالي نشعل الحرب ونجيله صبيان وشبان وشيباني والمنايا تنادي له من لابتي غضبة ارجالي نشلع الراس ونشيله يوم الثميدي يشعل اشعالي من نوى حربنا ويله ربع تعوقه بأشهب اللالي شيخنا نعتمد قيله بأرواحنا نرخص له الغالي هكذا عندما نبتعد عن المعاني القاموسية والتنظيرات المفاهيمية التي تشرح مفردة “وطن”، فلا يتبقى حينها سوى المعنى البسيط والأشد التصاقاً بالذات عندما تعي وجودها؛ الهوية والجسد والمكان. وحيث أن جبران خليل جبران يقول «إن بيتك هو جسدك الكبير»، فنستطيع القول إن وطنك هو كيانك الضخم. أما عندما نضيف إلى مفردة الوطن مفردة أخرى وهي “الجموع “ كما في “العرضة”، فنحن هنا نضيف إلى الذات العاطفية في احتفائها بالوطن، ذات أخرى وهي الذات العاقلة والتي تكبر بالحشد المتحد والمتجانس في قضيته وتطلعاته لتطاول عنان السماء قوة وعزة.