المملكة ترسّخ حضورها الثقافي العالمي..
مؤتمر دولي لمكافحة الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية.
في مشهد ثقافي عبّر عن المكانة المتقدمة التي باتت تحتلها المملكة العربية السعودية في مجال صون التراث الإنساني وحماية الإرث الحضاري، اختتمت هيئة التراث أعمال المؤتمر الدولي لمكافحة الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية، الذي انعقد في العاصمة الرياض يومي التاسع والعشرين والثلاثين من أكتوبر 2025 في فندق ماندارين أورينتال الفيصلية. وجاء هذا الحدث الدولي تأكيدًا لالتزام المملكة بدورها الريادي في حماية تراثها الوطني، وتعزي التعاون الدولي في مواجهة الجرائم الثقافية العابرة للحدود، وترسيخ مفهوم أن حماية التراث ليست ترفًا ثقافيًا، بل مسؤولية مشتركة تحفظ هوية الأمم وذاكرتها. شهد المؤتمر مشاركة واسعة من خبراء دوليين ومسؤولين وممثلين لمنظمات ثقافية، وتناولت جلساته أبرز التحديات التي تواجه حماية الممتلكات الثقافية، وسبل تطوير التشريعات والآليات الدولية للحد من تهريب الآثار. لم يكن هذا اللقاء مجرد حدث بروتوكولي، بل شكل منصة حوار عالمية أكدت من خلالها المملكة رؤيتها الثقافية القائمة على أن التراث الإنساني ملك للبشرية كلها، وأن الاعتداء عليه هو اعتداء على الذاكرة الإنسانية المشتركة. وخلال الجلسة الافتتاحية، أكد معالي الدكتور جاسر الحربش، الرئيس التنفيذي لهيئة التراث، أن المملكة نجحت في استعادة أكثر من 52 ألف قطعة أثرية خرجت من أراضيها بطرق غير نظامية خلال العقود الماضية، مشيرًا إلى أن هذا المنجز يأتي ضمن منظومة وطنية متكاملة لحماية الموروث الثقافي المادي واللامادي، بفضل الدعم الكبير الذي تحظى به الهيئة من القيادة الرشيدة. وأوضح أن حماية التراث أصبحت اليوم مسؤولية مجتمعية يشارك فيها المواطنون بوعي متنامٍ، مقدمًا شكره للشركاء المحليين والدوليين الذين أسهموا في جهود الاستعادة والحماية، ومؤكدًا أن هيئة التراث ماضية في ترسيخ مكانة المملكة كنموذج عالمي في إدارة وصون الإرث الإنساني. لقد جسد المؤتمر الرؤية السعودية الثقافية التي تجمع بين الأصالة والمسؤولية العالمية، وأكدت النقاشات فيه أن حماية التراث تتطلب تعاونًا دوليًا متواصلاً وتبادلًا للخبرات والممارسات. وفي الوقت الذي ما تزال فيه متاحف العالم تحتفظ بآلاف القطع المنهوبة من مواطنها الأصلية – من حجر رشيد المصري إلى بوابة عشتار البابلية – تعمل المملكة بجهد دؤوب على استعادة ما سُلب من آثارها وتوثيقه، إيمانًا منها بأن كل قطعة أثرية هي جزء من روح المكان وذاكرته. ومن القصص اللافتة في هذا المجال فقدان الحجر التأسيسي لقلعة الأزنم، وهو لوح حجري مربع الشكل نُقشت عليه ثلاثة أسطر بأسلوب الحفر البارز وكان مثبتًا بجانب البرج الشمالي الشرقي للقلعة قبل أن يُنتزع من موقعه عام 1427هـ، ثم جرى استعادته عام 1437هـ وإعادته إلى مكانه الأصلي ليكون شاهدًا على تاريخٍ معمّر بالحكايات وشاهدًا أيضًا على وعي المملكة المتجدد بقيمة تراثها وحرصها على صونه. ولأن الوعي الشعبي يشكل ركيزة أساسية في هذه الجهود، فقد جسدت قصص المواطنين العاديين هذا الحس الوطني الفطري في الحفاظ على الموروث. من تلك القصص حكاية ظبية الشهراني التي كانت ترعى الأغنام في جبال خميس مشيط، تجمع الأحجار الملوّنة بدافع الفضول، حتى سمعت عبر إذاعة الرياض عن حملة “استعادة الآثار” فبادرت بالاتصال بالهيئة وسلمت تسع عشرة قطعة ذات قيمة أثرية. هذه المبادرة العفوية تحولت إلى رمز للمواطنة الثقافية التي ترى في التراث مسؤولية شخصية وليست مجرد مهمة مؤسسية. وفي مشهد مشابه يعكس الصدفة التي تصنع التاريخ، تعود بنا الذاكرة إلى نحو خمسة عقود حين كانت المواطنة فضة الشمري في نزهة عائلية ببلدة الكهفة في منطقة حائل. وخلال جولتها، عثرت على تمثال صغير غريب الشكل احتفظت به دون أن تدرك قيمته، قبل أن يتبيّن لاحقًا من خلال دراسات علمية دقيقة أنه من أبرز الاكتشافات الأثرية في المنطقة. فقد أطلق عليه الباحثون اسم “رجل المعاناة”، واتضح أنه يعود إلى أواخر العصر الحجري الحديث، أي إلى ما بين عامي 3500 و3100 قبل الميلاد، ويُعتقد أنه من صنع فنانٍ من حضارة قديمة ازدهرت في شمال الجزيرة العربية. هذه القصة تختصر علاقة الإنسان بتراثه، حين يتحول الاكتشاف البسيط إلى شاهد خالد على عمق التاريخ الإنساني في هذه الأرض. لقد أثبتت هذه النماذج – من القطع المستعادة إلى الاكتشافات العفوية – أن المملكة تسير وفق رؤية متكاملة تعيد الاعتبار للتراث كجزء من مشروعها الحضاري والإنساني. فالثقافة، في مفهوم رؤية السعودية 2030، ليست هامشًا من الهوية بل ركيزة من ركائز التنمية المستدامة، ووسيلة لتعزيز الوعي والانتماء الوطني. والمؤتمر الذي نظمته هيئة التراث لم يكن مجرد حدث ثقافي عابر، بل محطة تاريخية تؤكد أن المملكة اليوم تمارس دورها كحارس أمين لذاكرة المكان، وكمساهم فاعل في حماية التراث الإنساني المشترك. وفي ختام الحديث، يحق لنا أن نثمّن الدور الكبير الذي قامت به هيئة التراث في تنظيم هذا المؤتمر وإنجاحه، وفي ما تبذله من جهد متواصل لاستعادة المفقود وحماية الموجود وتوثيق المكتشف. لقد أكدت الهيئة أن من يحمي تراثه يحمي تاريخه، ومن يحمي تاريخه يبني مستقبله، وأن المملكة، وهي تفتح أبوابها للعالم لحوارٍ ثقافي متوازن، إنما تقدم نموذجًا حضاريًا في أن الأصالة والمعاصرة يمكن أن تلتقيا في رؤية واحدة تحفظ الماضي وتبني الغد.