صيتة بنت فهد الدامر..

ابنة الصحراء التي لم تتبدل.

من مباهج الأيام أن وقع نظري على كتاب بديع الصوغ، آسر في رصانته موسومًا بعنوان “صيتة بنت فهد بن محمد الدامر” أبدعت بتأليفه “الأستاذة دلال بنت مخلد الحربي” ذلك السِفْر الناطق، الذي أيقظ الذاكرة على رواية أراها جديرة بالاسترجاع، وإعادة بثها في أسماع الجيل الجديد. بل بنقش حروفها في سجل الصحراء المهيبة. تروي سيرة وجهٍ أنثويٍّ رزين، يحمل مزيجًا من الحنوّ، والبساطة. إنها ابنة الصحراء التي دخلت بيت الحكم، وهي تضوع بعبق البادية، ذلك العبق الذي ظلّ يُلازمها طيلة حياتها. وُلدت “الأميرة صيتة بنت فهد بن محمد الدامر” في عام 1331هـ /1913م. في صحراء الأحساء، في زمن كانت المرأة تُولد فيه لتكون ظِلاً، لكنها اختارت أن تكون جذرًا، تمتد في الأرض وتمنح الآخرين ثباتًا ومعنى. فنشأت في فضاءٍ لا نهائي، لا تحدّه جدران ولا تعوقه قيود. في تلك الصحراء الواسعة تعلمت من الرمل الصبر، ومن الرياح السكينة، ومن النجوم الهداية. نشأت في بيئة يسودها التآزر، ويحوطها التعاضد، عرفت أن الوفاء ليس خُلقًا فحسب، بل منهج حياة. ومن هناك تشكلت شخصيتها على بساطة البادية ونقاء الصحراء. في عام 1341هـ /1921م، تزوجت وهي في ريعان صباها من أمير الأحساء “عبد الله بن جلوي بن تركي آل سعود” ولم يدخل بها لصغر سنها إلا بعد أربع سنوات. لكن القدر كتب لها أن تتجرع حزن الترمل مبكرًا رغم غضاضة العود، وبراءة الصبا، فقد توفي زوجها – رحمه الله - وهي في الثانية والعشرين من عمرها، وذلك في عام 1354هـ /1935م، حينها كانت حاملاً بابنتها “نورة “فوضعت حملها في اليوم نفسه الذي تلقت فيه نبأ وفاته. وحيث أُجيز لها شرعًا أن تنهي عدتها بولادتها، رفضت، وأصرّت أن تكمل حدادها أربعة أشهر وعشرة أيام وفاءً لزوجها الغالي، ومشاطرةً لزوجاته الأخريات في حزنهن. ذلك الموقف وحده كافٍ ليزيح الستارعن معدنها الأصيل، وعن مفهومها العميق للوفاء كعهدٍ روحي لا تعوزه النصوص، بل ترفعه المبادئ فوق المألوف. وبعد عام من ذلك الفَقْدْ، تزوجت “الأمير خالد بن عبد العزيز” عام 1355هـ (1936م)، قبل أن يصبح ملكًا فيما بعد. وأنجبت منه طفلة وطفل ارتقوا شفعاء لولديهما وهما في مرحلة الحضانة إضافة إلى ولد (فيصل) وست بنات (الجوهرة ونوف وموضي وحصة والبندري ومشاعل) بقوا بارين بوالديهم أحياءً وأمواتا. لم تكن “الأميرة صيتة بنت فهد الدامر” زوجة ملك فحسب، بل رفيقة مسيرة، وضميرًا حيًّا في بيت الحاكم، كانت حاضرة في وجدانه، تخفف عنه قلق التغيير في زمن التحولات الكبرى. وتُوازن في حياتها بين الوقار الملكي والبداوة الشماء. كان مجلسها النسائي مقصدًا لعشرات النساء: شاكيات، أو متألمات، أو باحثات عن نصرة أو شفاعة. تستمع بأذن الرحمة، وتنظر بعين الشفقة، وتتحرك بقلب الغيور على الكرامة الإنسانية. كان أكثر ما يؤلمها هو ظلم النساء في قضايا الطلاق ومنعهن من رؤية الأبناء، فتسعى بكل ما تملك لرفع الحيف، وتنقل شكاوى النساء إلى “الملك” بنفسها. كانت تؤمن أن للمرأة صوتًا يجب أن يُسمع، وأن الظلم مهما اغتسل بالعُرف، يبقى ظلمًا أسود، لا تبيضه الفذلكات البلاغية. من هنا ترسخت صورة “الأميرة صيتة” في وجدان المجتمع: امرأة قوية الموقف، شفيفة القلب، نُصرةً للضعيف، وسندًا للمحتاج، وملجأً للخائف. في مجلسها النسائي كانت العدالة تتنفس، وكانت الكرامة تنتشي، وكان حضورها - بحد ذاته - يبعث الطمأنينة في نفوس المكلومات. لهذا أحبها الناس، لأنها لم تبنِ بينها وبينهم جدرانًا عالية من البروتوكولات والتراتبية، بل مدت جسورًا صلبة من الثقة والمودة. من خلال مكانتها الرمزية في كنف “الملك خالد” أسهمت من خلال مشروع الدولة الحضاري في فتح مدارس البنات في الهجر والمناطق النائية، مدركةً أن العلم هو طريق الكرامة. لم تكن تسعى للشهرة، بل كانت تعمل بصمت، كما تعمل الريح في الصحراء، تُبدّل وجه الأرض دون أن تُرى. حين رحل “الملك خالد بن عبد العزيز” رحمه الله - إلى الرفيق الأعلى عام 1402هـ /1982م. انكسر في داخل “الأميرة صيتة بنت الدامر” ركنٌ من السكينة لا يُعاد بناؤه. لم يكن الفقد عندها حدثًا عابرًا، بل غربة ممتدة. بكت علنًا في أيام العزاء، ولم تُخفِ ضعفها، لأن القوة عندها لم تكن في حبس الدمع، بل في صدق المشاعر. كانت تُدرك أن البكاء أحيانًا صلاةٌ لا تُقال بالكلمات. ومنذ ذلك الحين خفت ضوؤها قليلًا كشمعة تحترق لتضيء ما تبقّى من الذاكرة. وعاشت بعد رفيق دربها برعاية ابنها وبناتها بصحة جيدة، لكنها في سنواتها الأخيرة عانت وهن الكِبَرِ وضعف الجسد. وفي يوم الثلاثاء 12 صفر 1434هـ الموافق 25 ديسمبر 2012م. فاضت روحها الطاهرة إلى بارئها بخشوع وجلال. كانت “الأمير صيتة بنت فهد الدامر”من ذلك الجيل الذي عاصر الولادة الصعبة للدولة، وعاش التبدلات الجذرية من حياة الخيام إلى أروقة القصور، دون أن يتنكّر للأصل. ومثلها مثل نساء خالدات في تاريخنا الحديث “ الأميرة نورة بنت عبد الرحمن” و “الأميرة حصة السديري” وغيرهن، فقد كانت “الأميرة صيتة” شاهدًا على أن المرأة في “المملكة العربية السعودية” لم تكن يومًا على الهامش، بل أحيانًا تكون شريكة في صناعة الحدث. وحين نتأمل سيرتها العطرة نجد أننا لا نقرأ مجرد سيرة أميرة في بيت ملكي، بل كانت تعرف كيف تكون طيفًا مخمليًا خلف الملك، من دون أن تفقد حضورها أو تتجاوز حدودها. ولعل أجمل ما يُقال عنها أنها لم تتغير فقد ظلت على سجيتها، كما يظل الرمل على طبيعته رغم كل ما يمر به من رياح. وهكذا تنتهي حكاية امرأةٍ حملت في قلبها ملامح وطنٍ جميل. كانت الصحراء حاضنتها الأولى، وكانت الكرامة لغتها الأم، وكان الوفاء منهجها الراسخ. تلكم المرأة “الأميرة صيتة بنت فهد الدامر” التي أثبتت أن الأصالة لا تذوب في الأبهة، وأن المرأة حين تكون نفسها ولا تتبدل، تكون مدرسةً للعراقة وبيتًا للعطاء.