
في صيف العام الماضي، سافرت إلى لندن للمشاركة في برنامج دبلوم دراسات المتاحف المقدم من هيئة المتاحف بالتعاون بين كلية الدراسات الاستشراقية SOAS في جامعة لندن وجامعة عفت، وكانت الرحلة بالنسبة لي أكثر من مجرد تدريب أكاديمي؛ كانت بوابة لاكتشاف العلاقة بين الإنسان والأثر، بين اللغة والمكان، وبين التاريخ والحكاية. وبين أروقة المتحف البريطاني، وبين آلاف القطع التي تحكي قصصًا من حضارات بعيدة، استوقفتني قطعة صغيرة من الخزف الصيني حملت الرقم (1973,0726.366)، لكنها حملت أيضًا سؤالًا كبيرًا عن المعنى. كانت القطعة على شكل مسند أقلام من عهد أسرة مينغ، تحديدًا من فترة الإمبراطور تشنغده (1506–1521م)، صُنعت في مدينة جينغدتشن بمقاطعة جيانغشي المشهورة بصناعة الخزف الرفيع. كانت القطعة تشبه سلسلة جبال صغيرة بخمس قمم زرقاء لامعة، تتدرج كأنها موجات من الحبر المتجمد، وتحمل في وسطها نقشًا عربيًا مترجمًا على لوحة العرض إلى الإنجليزية بمعنى “The pen before everything” أو “القلم قبل كل شيء”. لم يكن النص غريبًا، لكنه أثار فيّ شكًّا صغيرًا. بدا لي أن هناك في العبارة العربية نغمة أعمق مما نقلته الترجمة الإنجليزية. شعرت أن الكلمات تخفي معنى آخر، معنى ربما لم يُقرأ بعد. عدت مساءً إلى السكن، أعدت النظر في الصورة التي التقطتها، وشاركتها على حسابي في “سناب شات” مع سؤال بسيط لمتابعيّ: “كيف تقرأون هذه العبارة؟”. انهالت عليّ الردود من كل مكان، وتنوعت الإجابات بين من قال: “القلم ظهر فاختفى كل شيء”، وآخر قال: “القلم في كل شيء”، وثالث رأى أنها ببساطة “القلم قبل كل شيء”. لم أجد إجابة واحدة تقطع الشك، لكنني وجدت نفسي أقترب أكثر من جوهر السؤال: كيف يمكن لجملة قصيرة أن تفتح أبوابًا من التأويل بهذا الاتساع؟ في اليوم التالي بدأت أبحث عن إجابة علمية، فتواصلت مع عدد من المتخصصين في اللغة والمخطوطات العربية. تحدثت إلى الدكتور صالح الحارثي من جامعة الطائف، الذي قرأ النص بصيغة مختلفة: “أقبل القلم فرّ كل شيء” أي أن القلم تجلّى فاختفى كل ما عداه، بينما رأى الدكتور عادل المقرقبي أن الصيغة هي “أقبل القلم في كل شيء”، بمعنى أن القلم حاضر في كل مظاهر الوجود والمعرفة. أما الدكتور وليد غالي، مدير مركز ومكتبة الآغا خان في لندن، فقد قدم قراءة فلسفية أكثر اتساعًا، قائلاً إن النص ربما يعني “القلم أقبل من كل شيء”، أي أن الكلمة جاءت من أصل الأشياء كلها. كانت التفسيرات متفاوتة، لكنها تشترك في فكرة واحدة: أن “القلم” في هذا النقش ليس مجرد أداة كتابة، بل رمز للخلق والمعرفة والوجود نفسه. تلك الحوارات جعلتني أرى القطعة الخزفية من منظور جديد. لم تعد مجرد تحفة من الخزف المزخرف، بل وثيقة ثقافية ولغوية تجمع بين حضارتين التقتا مصادفة في قطعة صغيرة من الطين المحروق. حين أمعنت النظر، أدركت أن المتاحف لا تحفظ الأشياء فحسب، بل تحفظ أيضًا الطريقة التي نراها ونفهمها. فعندما تخطئ ترجمة جملة، فإنها لا تغيّر الكلمات فقط، بل تغيّر زاوية الرؤية كلها، وتعيد تشكيل وعينا بجماليات الآخر. من هنا بدأت أفكر في مسؤولية المتاحف عن دقة الترجمة والمعنى، وعن حاجتها إلى إشراك المتخصصين اللغويين والثقافيين في تفسير المقتنيات العابرة للحضارات، بل وإشراك الزوّار أنفسهم في طرح الأسئلة والملاحظات، ليصبح المتحف فضاءً للحوار لا مجرد قاعة عرض. لم تكن تلك التجربة درسًا في الترجمة فقط، بل كانت درسًا في الإصغاء إلى الأشياء الصامتة. اكتشفت أن اللغة لا تسكن الكتب وحدها، بل يمكن أن تجدها منقوشة على قطعة خزف، أو مطبوعة على ورق، أو محفورة على جدار، تنتظر من يقرأها من جديد. كانت القطعة رقم (1973,0726.366) مرآة صغيرة لرحلة طويلة من التفاعل بين الشرق والغرب، بين الحرف العربي والزخرفة الصينية، بين المعنى الذي نكتبه والمعنى الذي نكتشفه بعد قرون. عندما غادرت المتحف البريطاني في ذلك اليوم، شعرت أن “القلم قبل كل شيء” لم تكن مجرد جملة، بل خلاصة لتجربة إنسانية كاملة. فالقلم هو الذي صنع الذاكرة، وهو الذي كتب التاريخ، وهو الذي ما زال يربط بيننا وبين كل تلك العصور التي نحاول فهمها من خلال الأشياء التي تركوها وراءهم. ربما لم أخرج من المتحف بإجابة نهائية عن المعنى، لكنني خرجت بيقين واحد: أن كل قطعة أثرية، مهما كانت صغيرة، تخفي في داخلها قصة تنتظر أن تُروى، وحوارًا صامتًا بين الحضارات لا ينتهي.