التعليم أمن وطني.. ولكن؟!

كتب الكثير حول ضرورة تطوير التعليم والاهتمام به، وأن المجتمعات تتميز حضاريا بأنظمتها التعليمية، وهذا مقررٌ ومعروف، ومؤسساتنا التعليمية وعلى رأسها وزارة التعليم لا تدّخر وسعا في تقديم كل إمكانياتها في صناعة فارق إيجابي في تعليمنا العام والعالي، ومع كل تلك الجهود المذكورة والمشكورة؛ أود أن أسلط الضوء على بعض القضايا والمعالم الضرورية في حماية وتطوير منظومتنا التعليمية، سأورد أهمها على النحو الآتي: أولا: هناك متغيرات هائلة حدثت خلال العشر السنوات الماضية، تمثلت في ثورة الاتصالات والمعلومات التي جاءت بها مواقع التواصل الاجتماعي، ثم منصات الذكاء الاصطناعي التي باتت شغل العالم اليوم، بمنتجاتها شديدة الابهار والإدهاش؛ بينما حال الأنظمة التعليمية التقليدية لا يزال يسير وفق منظومات وخطط لم تراع تلك التحولات الرهيبة، فكلما أفاقت تلك المؤسسات على مواكبة منتج جديد صدمها قدوم الأجدّ وهكذا، ولا ينكر عاقل ما للذكاء الاصطناعي من فوائد جمّة، لكن لا يخفى أيضا ما يقابله من محاذير ينبغي التعاطي معها بجديّة، وأهم هذه الإشكالات من وجهة نظري؛ أن كثرة المعلومات والسرعة التي تميز (شات جي بي تي) -على سبيل المثال-، جعلت الجيل الشاب المعتاد على التقنيات والمتحفز لمنتجاتها؛ مدمنٌ يومي لهذا البرنامج وغيره، فالمقرر الدراسي يمكن اختصاره وتحويله إلى مقاطع صوتية ومرئية، ويمكن أن يقوم البرنامج بشرح الدرس وتبسيطه، وترجمة أي معلومة مهما تعقّدت لغتها، كما يمكنه أن يوفر الوقت الطويل في كتابة بحث أو حلّ واجب، ما يعني الاسترخاء أكثر، والاعتماد الكلي على هذه البرامج مع مرور الوقت، لذا لن تكون هناك حاجة لأستاذٍ أو دكتورٍ مملّ يقف أمامهم للشرح أو التوضيح؛ بل أصبحت متطلبات النجاح والتخرج بين أصابعهم دون عناء، وهنا تكمن خطورة تلك المنصات الذكية في اعتماد اجيالنا الحالية عليها بشكل كامل وفي كل مجالات الحياة، بعيدا عن روح العلم وقيمه، وبدون حرص على إدراك المعاني وتنزيلها على أنماط الحياة، فهمُّ الطالب هو تحصيل تلك المعلومات الجامدة لتحقيق متطلبات النجاح، ما قد يعرّض أجيالنا المدمنة لهذا النوع الفاتر من التعليم، ومن ثمّ إلى استلهام تلك البيانات الكثيفة ذات التوجيه الأجنبي لتكون بوصلتنا الوحيدة في التعلّم والتعرّف والعيش السريع. ثانيا: من أهم أهداف التعليم لأجل وطن قوي، تمكين التعليم الذي يعزز القيم ويحمي الهوية، وهذا الهدف قد جاء ذكره في الأهداف الاستراتيجية لوزارة التعليم، ورؤية 2030، ما يضيف تحديا كبيرا على عاتق المؤسسة التعليمية لتحمي القيم والهوية الوطنية في ظل عالم افتراضي نغرق فيه بكل لذة، ونعيش في وسط ضجيجه بكل شغف، ولذلك من المستحيل في هذا الفضاء المفتوح والتنافس المحموم أن نغلق أجهزتنا المحمولة دون أن يتسلل إليها ما يهدد القيم والعقيدة والهوية، إنه تسلل في وضح النهار وأمام الجميع وبكل عنجهية، لأن طبيعة هذا الفضاء المفتوح عصيٌّة على التقييد والتهذيب وصنع الحدود، وأخطر ما يتسلل للأنفس والعقول خصوصا لأجيال الشباب، ثلاثة تحديات مؤرقة لكثير من مؤسساتنا التعليمية، فبالإضافة إلى ما ذكرت حول برامج الذكاء الاصطناعي من مخاطر، تأتي مواقع التواصل الاجتماعي لتؤكد ضرورة استنفارنا تجاهها، أختصر هذه التحديات في أحوال ثلاثة؛ وهي: «التشيؤ الرقمي»، بمعنى أن يتم التعامل مع الأفكار من خلال أشخاص قائليها، ثم التفاعل مع هؤلاء الأشخاص حسب مكانتهم الرقمية وعدد متابعيهم، بالإضافة إلى التعاطي الحياتي مع الذات والأخر والوجود والمعنى؛ مثل ما نتعاطى مع بقية الأشياء الجامدة دون مراعاة قيمتها وطبيعتها واختلافاتها عنا، كل ذلك مبني على أساس سعر الشيء في السوق والفضاء الرقمي، وما يقدمه من منفعة أو قل متعة تحقق فردانيتنا، وليحترق العالم والكون بعد ذلك. والتحدي الثاني: «سحر الخوارزميات»، حيث ننساق بتفكير أو بدون تفكير نحو أخبار ومعلومات ومنتجات، ونتعاطى معها فقط؛ وفق أطر مسبقة وضعتها شركات التقنية ومواقع التواصل الاجتماعي في وادي السيلكون، لتصنع موقفنا تجاه قضية أو بلد أو مجتمع؛ كما يراد لنا أن ننساق خلفه، وتحصل هذه الهيمنة من خلال الاعلانات أو(الترندات) أو الصور أو المقاطع الكثيفة، التي ستحدد ما نؤمن ونقتنع به، دون وعي بمدى صدقه وحقيقته. والتحدي الثالث: «صناعة التفاهة» وأقصد بأن يتصدر كل مشهد علمي وثقافي واقتصادي الشخص التافه الأنيق، الذي يملك جمال المظهر والتأنق اللفظي؛ بينما مخبره فارغ وعقله ناقص، لكنه نشيط في حركته وموجود في كل مناسبة، ويستقبله محبوه بكل حفاوة مبهرة، فيصبح مرجع القنوات الفضائية، ومحلّل الأخبار، ومقصود الشباب في مقاهي الأدب، والمفكر المستضاف في اللقاءات والحوارات (بودكاستات). أمام هذه المعطيات التي باتت في صلب مشهدنا اليومي، الذي لا يغيب عن بيت ومدرسة وجامعة، نتساءل: ماذا عسانا أن نفعل؟ وكيف نقاوم مثل هذا السيل العرم الصامت المخيف اللذيذ؟! ثالثا: هل نحتاج إلى تدريس مواد إسلامية في ظل مجتمع مسلم تشريعاته إسلامية؟، وهو سؤال يُطرح كثيرا في منابرنا الإعلامية مؤخرا، ومن وجهة نظري أن المقررات الإسلامية باتت ضرورة وقائية لمواجهة الغثاء العقدي الذي تقذفه مواقع التواصل الاجتماعي وركام البيانات في الذكاء الاصطناعي، مثل الدعوات الناعمة لترويج الأديان الروحانية التأملية والإبراهيمية، أو حوارات التشكيك في قيمة التوحيد الذي قامت عليه عقيدة هذه البلاد، ومحاولات نشر الشبهات العقدية وتجميل التطرف في قوالب أفلام ومقاطع مثيرة لإعجاب الصغار والمراهقين، ولأجل ما سبق باتت حاجتنا ماسّة لتعليم ديني وقائي وتحصيني لتصفية العقول من تلك الملوثات الفكرية والعقدية، وألحظ أننا في السنوات الأخيرة نعيش شعارات دينية بقوالب حزبية وطائفية تدّعي الصفاء والنقاء والصحة؛ بينما تمتلأ أفكارها بانتقاص التوحيد ومصادمة شرعية الدولة، ولا يقف الأمر عند ذلك؛ فالعالم مع توجهه الإلحادي إلا أن هناك عودة نحو التعليم الديني في كثير من دول العالم؛ بل أصبحت نغمة يرددها الكثير من السياسيين، فقد أعلن الرئيس الأمريكي ترمب عن مبادرته: «أمريكا تصلي» وهي دعوة لتوحد المسيحيين في الصلاة من أجل قوة أمريكا (انظر: صحيفة يو اس ايه توداي، سبتمبر 2025م). كما أن مادّة التعليم الديني في أوروبا باتت تنحو نحو التجديد والعودة، ففي ألمانيا -على سبيل المثال- هناك مواد دينية تُدرّس للغالبيّة العظمى للتلاميذ، وهي مدرجة في البرامج من المدرسة الابتدائيّة إلى البكالوريوس، والدرجات التي يتحصّل عليها التلاميذ تحتسب في معدلاتهم العامّة، ويتمّ تكوين الأساتذة في كلّ مقاطعة فدراليّة بشراكة مع الكنائس. (انظر: بحث «تدريس الدين بالمدارس العامة في ألمانيا وسويسرا وشرق فرنسا»(دراسة مقــــارنة) للدكتور جيرار جـانيـس، نقلا عن موقع مسبار 10ديسمبر 2020م) وفي مناهج التعليم الإسرائيلية هناك إشراف كامل من قِبل التيار اليميني المتدين، فحقيبة وزارة المعارف دائما ما تذهب لهم منذ 2009م؛ رغم قوة التيار العلماني في إسرائيل، وهي مواد إلزامية في كل المراحل التعليمية. (انظر: كتاب «التدين في مناهج وكتب التعليم في إسرائيل» لجوني منصور، نشر المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات «مسارات» 2018م، ص32). فهذه العودة العالمية نحو التعليم الديني، تمرر من خلاله أجندة الغزو والسيطرة، وقد وافقت هذه العودة رغبات اليمين القومي في أوروبا؛ من خلال دعواتهم نبذ الهجرة ومحاربة الإرهاب الإسلامي. لأجل ذلك أرى أن موقفنا اليوم تجاه تعليمنا الديني يجب أن يراعي تلك التحديات الوطنية والاحتياجات القيمية، ويُقوُّم باستمرار لمعرفة جدوى تلك المناهج في بناء شخصية الطالب، حتى لا نفاجأ من تشكّل جيل منفك عن دينه، مملوء بالضغينة لمعتقده، يسهل كثيرا تغييبه أو دحره بلا عناء. رابعا: المعلم والمعلمة هما خط الدفاع الأخير.. شئنا أم أبينا!، فالمعلم اليوم هو المحارب الأخير في معركتنا القيمية والتعليمية، هذا التأكيد في حق المعلم، ليس مبعثه العاطفة أو أنه وليد اليوم، بل هو الأمر الذي اختاره الرب سبحانه ليهدي البشر من ضلالتهم ويحمي التوحيد ببعثة الرسل والانبياء الذين لم يعدوا حالهم إلا أن يكونوا معلمين الخير للناس، فالمعلم حقيقةً هو النبي غير المعصوم في كل حيّ ومدرسة، وهذا ما أكدّه نبينا المعصوم صلى الله عليه وسلم عندما قال:» إن الله لم يبعثني معنّتا ولا متعنّتا، ولكن بعثني معلما ميسرا» (رواه مسلم 1478)، وذلك لأهمية دورهم في كل أمه، وتزداد أهمية المعلم في مدرسته، عندما يحضر إليه الطلاب والطالبات ولمدة 5-7 ساعات في اليوم، بلا جوال أو آيباد أو ألعاب ألكترونية، متهيؤون لسماع ما يقول، ومقبلون على شخصه وهو في أفضل أحواله، وربما يبلغ كلامه من التأثير أكثر من تأثير والديهم الذين يرونهم في كل الأحوال، هذا التفرغ الذهني والاستعداد النفسي للمعلم، فرصة عظمى لا تحصل اليوم مثلها في البيوت، المترعة بالإنترنت والألعاب والتحديق الطويل أمام الشاشات الصغيرة والكبيرة، لذلك كان معلمنا المنقذ هو خط دفاعنا الأخير في حمايتنا من التشوهات الأخلاقية والزيف الثقافي والشكوك العقدية، إنه ملاذ المجتمع لو أدركنا حقيقة موقعه وخطورة منزلته، فما بالكم ولدينا في المملكة أكثر من 513 ألف (محارب) معلم ومعلمة؛ حسب إحصائية وزارة التعليم في 2024م، علينا الاهتمام بهم والاحتفاء بدورهم. أختم بسؤال لا يزال يراودني أثناء كتابتي للمقال: هل أنا مبالغ فيما أقول من تحذير؟.. ولا أريد أن أجيب، وهو سؤال مفتوح ينظر القارئ الكريم في مدى جدواه، ولكن الواقع الذي يمرّ به العالم يشعرني أن هناك الكثير من الشركاء في ذلك التخوّف، فهناك قرارات جديدة بدأت تدرك خطر استعمال الهواتف الذكية للأطفال وحتى البالغين، فقد طرح وزير التعليم الإيطالي في مايو 2025 مشروع قرار يمنع دول الاتحاد الأوروبي استخدام الهاتف المحمول في جميع المدارس، وهناك أكثر من 60 دولة في العالم منعته فعليا منذ أعوام، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون دعا للتحقّق من أعمار الفتيان قبل التسجيل على وسائل التواصل الاجتماعي، وقال: «علينا أن نتشارك في معركة أوروبية موازية، واعتقد أنه يتعين علينا فعل ذلك» (انظر: تقرير لليونسكو: Technology on Her Terms، نشر في موقعها 25 ابريل 2025م) وأظن صيحات التحذير من هذه الموجة الرقمية باتت تتعالى كل يوم، وهذا ما يجعلنا في حاجة ماسة لمبادرات وبرامج ومقالات وخطب وقرارات تحصن شبابنا بجرعات واقية تمنحهم الصلابة الروحية والعقلية، وتعينهم على تجاوز هذه الأمواج العاتية، حتى نراهم وقد ركبوا سفينة نوح، سفينة النجاة والرشد والوعي القويم.