فلسفة الاختلاف.

منذ أن خطا الإنسان أولى خطواته فوق تراب الأرض، حمل معه شوقًا خفيًا نحو معنى يبرر وجوده. ومع هذا الشوق، بدأ الانقسام الطبيعي في الميول والمشارب والطرق. فالناس، منذ الأزل، لم يكونوا نسخة واحدة، ولا عاشوا على مذهب واحد، بل تفرقت بهم السبل واختلفت مقاصدهم. هذه الحقيقة الخالدة تختصرها عبارة موجزة لكنها عميقة: «الناس فيما يعشقون مذاهب». هذه الجملة، على قصرها، تختزن فلسفة كاملة في فهم الحياة. فهي تذكّرنا أن البشر لا يسيرون في خط مستقيم واحد، بل يتوزعون في مسارات متعددة، قد تتقاطع وقد تتوازي، لكنها نادرًا ما تنتهي إلى غاية واحدة. ذلك أن كل إنسان يصوغ لنفسه منهجًا أو مذهبًا، قد يختاره بوعي، أو يفرضه عليه واقعه وتجربته. وهكذا تتنوع الطرق، وتتشابك المسارات، لتصنع في النهاية صورة فسيفسائية للوجود الإنساني. لو تأملنا المجتمع من حولنا لوجدنا أمثلة حيّة على هذه الحقيقة. هناك من يرى أن خلاصه في العلم، فينغمس بين الكتب والمخطوطات، يفتش في ظلال التاريخ ويضيء بالعقل ما تعجز الحواس عن إدراكه. وهناك من يظن أن المال هو المعنى، فيسعى وراء التجارة، ويحسب خطواته بلغة الأرقام. وهناك من يذوب في الفن، شاعرًا أو موسيقيًا أو رسامًا، كأنه يترجم خلجات الروح إلى لون أو لحن أو قصيدة. وفي المقابل، نرى من يجعل الزهد مذهبه، أو من ينذر نفسه للعبادة، أو من يكرّس حياته لخدمة الآخرين. كل واحد منهم يسلك طريقًا، لكن الطرق جميعًا تتلاقى عند نقطة واحدة: توق الإنسان إلى الامتلاء بالمعنى. الاختلاف كقانون كوني التاريخ نفسه شاهد على أن هذا التباين لم يكن عائقًا أمام الحضارة، بل كان شرطًا من شروطها. فلو كان الناس كلهم علماء، أين يكون الشعراء؟ ولو كانوا جميعًا تجارًا، من سيكتب الفلسفة؟ ولو اتفقوا على منهج واحد، لانطفأ الإبداع، ولانتهى التاريخ إلى صحراء ممتدة بلا خضرة ولا ماء. إن الاختلاف هو الوقود الذي أبقى الإنسانية في حركة، والسر الذي جعل الحضارة ممكنة. الفلاسفة منذ أقدم العصور أدركوا هذه الحقيقة. قال هيراقليطس: «لا يمكنك أن تنزل النهر مرتين، لأن مياهه تتجدد دائمًا». فالحياة، مثل النهر، لا تعرف الثبات، وكل لحظة تولد جديدة مختلفة عمّا سبقها. أما نيتشه فقد اعتبر أن التعدد ليس مجرد حقيقة طبيعية، بل هو قوة دافعة للإبداع، وأن الصراع بين المذاهب والرؤى يولد أعظم ما في الإنسان من طاقات. وفي التراث العربي والإسلامي نجد ذات المعنى. فالقرآن الكريم يقرر بوضوح: «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين»، أي أن الاختلاف قدر إلهي لا مفر منه. بل إن التاريخ الإسلامي نفسه قام على تعدد المذاهب الفكرية والفقهية، التي أغنت التجربة الدينية والإنسانية، وجعلت الثقافة الإسلامية نهرًا متشعب الروافد. الوجه الآخر للاختلاف لكن لهذا التنوع وجهًا مظلمًا. فالاختلاف حين يُدار بوعي، يكون مصدر ثراء، لكنه حين يُترك للتعصب والانغلاق يتحول إلى نقمة. وكم من الحروب الدامية نشبت لأن جماعة ما رأت نفسها مالكة للحقيقة المطلقة، فأنكرت على الآخرين حقهم في الاختلاف. وكم من الدماء أُريقت لأن المذاهب تحولت من طرق متجاورة إلى جدران متصارعة. التاريخ زاخر بالأمثلة. في الأندلس، حين ضاق الأفق وتناحرت الطوائف، تلاشى مجد حضارة كانت منارة للعلم والفن والتسامح. وفي أوروبا، حروب دينية طاحنة امتدت لقرون بين الكاثوليك والبروتستانت، لم تخلف سوى الخراب والدمار. وحتى في عصرنا الحديث، ما تزال النزاعات الفكرية والسياسية تتحول في كثير من الأحيان إلى ساحات صراع لا تعترف بحق الاختلاف، بل تعتبره تهديدًا يجب سحقه. التسامح كجسر للحياة وهنا يبرز المعنى العميق للتسامح. فالتسامح ليس ضعفًا ولا تنازلًا، بل وعي بأن الوجود يتسع للجميع، وأن الحياة لا تُعاش بلون واحد. هو أن ترى المختلف عنك كنافذة جديدة، لا كخصم يهددك. أن تدرك أن الحقائق الكبرى لا تُختزل في زاوية واحدة، بل تتكشف عبر زوايا متعددة. لقد اتفقت الشرائع والفلسفات على قيمة التسامح. فالقرآن دعا إلى التعارف بين الشعوب والقبائل، والإنجيل أوصى بالمحبة حتى للأعداء، والفلسفات الشرقية نظرت إلى التنوع باعتباره طريقًا للحكمة. أما المفكرون الحديثون فقد أكدوا أن التسامح هو الشرط الأول للاستقرار، وأن الحضارة لا يمكن أن تُبنى على الإقصاء، بل على الاعتراف بالآخر. الفرد والمجتمع... تكامل لا غنى عنه وعلى مستوى الفرد، يتضح أن المذهب الذي يعيشه الإنسان لا يكتمل إلا بمذاهب الآخرين. فالعالم لا يعيش بلا مزارع، والمزارع لا يعيش بلا طبيب، والطبيب لا يستغني عن المهندس، والشاعر لا يزدهر دون قارئ، والفنان لا يُبدع إلا بوجود من يقدّر فنه. المجتمع ليس مجرد مجموعة من الأفراد، بل شبكة من المذاهب المختلفة التي تتكامل معًا لتشكل نسيجًا متماسكًا. إن المذهب الذي يعيشه كل إنسان هو بمثابة خيط في لوحة النسيج الكبرى. قد يبدو متفرّدًا، لكنه لا معنى له إلا بارتباطه بالخيوط الأخرى. وإذا انقطع أحدها، اهتز البناء كله. ومن هنا نفهم أن التنوع ليس مجرد خيار، بل هو ضرورة وجودية، وأن الاعتراف بالآخر ليس مجاملة، بل شرط للبقاء. حكمة العبارة بعد كل هذا، ندرك أن عبارة «للناس فيما يعشقون مذاهب» ليست توصيفًا اجتماعيًا عابرًا، بل حكمة فلسفية عميقة تختصر قصة الإنسان على الأرض. إنها تقول لنا إن الاختلاف قدر، وإن التنوع ثراء، وإن التسامح ضرورة. إنها تذكّرنا أن الطريق إلى الحقيقة لا يُرسم بخط مستقيم واحد، بل يتشكل من آلاف المسارات التي تتقاطع وتتشابك، وتمنح للحياة معناها المتجدد. الناس مذاهب، وهذه المذاهب، مهما بدت متناقضة، هي التي صنعت التاريخ، وأبدعت الفلسفة، وأنجبت الشعر، وأطلقت الفنون، وبنت الحضارات. فإذا أُديرت بالوعي، صارت جسورًا للتكامل والإبداع، وإذا تُركت للتعصب والانغلاق، تحولت إلى جدران للصراع والانهيار. وفي النهاية يبقى الدرس الأجمل: أن اختلاف المذاهب ليس لعنة، بل هو هبة إلهية، تجعل الإنسان أوسع من أن يُختصر في طريق واحد، وتمنح الوجود فسيفساءه البديعة التي لا تنفد. فمن تباين الطرق يولد غنى التجربة، ومن تعدد الأصوات تتشكل سيمفونية الحياة، ومن اختلاف المذاهب يُكتب التاريخ.