هل أصبحت الرواية ديوان العرب؟

الزخم الذي تتلقاه الرواية في هذا العصر – لا سيما النسائية - لم يكن حاضرًا من ذي قبل، غير روائيين محدودين ومشهورين في عالم السرد لهم كعبهم العالي، وحضورهم اللافت. كان الشعر طاغيًا على كل الفنون الأدبية، ولا غروَ في ذلك؛ لأن الشعر يمثل طاقة من الشعور تعكس مشاعر الناس والشعراء؛ وتلبي رغباتهم قديمًا وحديثًا، ولأنه – أيضًا، أعني: الشعر- قويٌّ في قدرته على الإيحاء والرمزية وتجاوز الواقع. في القرن الحادي والعشرين تغيّر وجه الأدب بشكلٍ لافت من حيثُ حضوره في الأندية، والمكتبات، والثقافة، والبرامج، والنشاطات الأدبية، وحتى الجامعات، كل هذه المكونات صارت مفعمةً بالروايات، وكأن فنون الأدب اختزلت جميعها في فنٍّ واحدٍ، هو فن الرواية. بالنسبة لي لا أدرك السبب الرئيس لهذه الظاهرة الشائعة، فقد يكون السبب عائدًا إلى حالة سيكولوجية نفسية، وقد يكون هبّة في المجتمع عمّت العنصر النسائي فجعلته يعيش فوضى روائية عارمة، أو يعود ذلك إلى سهولة التعاطي مع هذا الفن من فنون السرد، أعني: الرواية، وربما كان السببُ – وهو الذي أميل إليه – فقدان الشعر حياته الطبيعية، ونشاطه اللا إرادي في الإنسان، وقد ظلّ قرونًا وهو يتسيّدُ العالم من حيث الجمالُ، والخيالُ، والسحرُ، والانتشاء. لو نظرنا في واقع الأمر أيهما أقدر على التعبير عن الواقع، وتجسيد الحياة بكل ظروفها وطقوسها، لا شكَّ أن الشعر له قصب السبق في ذلك، فهو تعبير فردي وجماعي، وإن كان الروائيون يرون أن الزمن زمنهم، لا ينافسهم ولا يجاريهم فيه أحد. يجب أن نعلم يقينًا أنّ ليس كل شعر يُقال عنه شعر، وليس كل شاعر يقال عنه شاعر، كما أنّ ليس كل رواية يُقال عنها رواية، وليس كل روائي يُقال عنه روائي؛ إذ إنّ الفيصل في هذا هو الإبداع، والمحك هو الإمتاع سواء كان شعرًا أم نثرًا. إن هذا التمييز بين الشعر والشعراء قائمٌ منذ العصور الأولى، وهي حالة صحيةٌ بامتياز، وما قصة النابغة الذبياني النقدية عنا ببعيد، فقد كان تُضرب له قبة حمراء من أدم في سوق عكاظ، ويجتمع عليه الشعراء فيتحاكمون إليه. ولكن هذا لا يعني أن الشعر سيفقد ذات يوم وهجه ومكانتَه، وسينكفئ على نفسه، أو ينزوي في زاوية ضيقةٍ ليحل مكانه فنٌّ آخر، وهذا الذي نعيشه نحن في هذا الزمن الممتلئ بالمتغيرات الذي كان من الأولى أن يكون الشعر فيه رأسًا، ورائدًا. لست في هذا المقال متحيّزًا للشعر بقدر ما أنا أحكي واقعًا مؤلمًا في الساحة الأدبية؛ لأن الرواية الحقيقية اللافتة التي نعرف من خلالها الواقع بكل تفاصيله، ونعيش معها خيالًا رائعًا لم تعد موجودة مع الزخم الطاغي من الروايات المنفصلة عن روح الشعر والحياة والمجتمع، إلا رواياتٍ معدودةً تكان أن تحتضر. بل إن بعض الروائيين الكبار اختفت رواياتهم التي كانت مشعةً في سماء الأدب، وقلَّ حضورهم الناضج بسبب ذلك، وقد يعانون ألمَ هذا الوهنَ الروائي، والترهل السردي إن صح التعبير. إن الوعي الروائي الحقيقي هو الذي لا ينفصل عن الشعر بأبعاده واتجاهاته، وهذه هي الحلقة المفقودة في الأسلوب الروائي؛ إذ ينبغي أن تتجلى الشعرية في الرواية من حيث الكثافة التعبيرية، والتصوير المحلّق، وأن تكون الغنائية الشعرية حاضرةً في نسج النص الروائي. لابد من الإشارة إلى أن المتلقي يلعب دورًا كبيرًا في هذا التحييد والإقصاء، لم يعد للقصيدة متلقون وقرّاء يحتفون بها وتحتفي بهم كما كان بالأمس. لقد أصاب حسَّ القارئ للشعر والمتلقي له ضعفٌ، وانتابه شيء من الوهن، في المقابل أصبح المتلقي للرواية منتشيًا ومنتعشًا، وكأنني به وهو يقول: الأرض أرضي والزمان زمانيه. إن من يزور معرض الكتاب يجد هذا جليًّا في دور الطباعة والنشر؛ إذ إن اللافت في ذلك أمران، الأول: بعض الدور الحديثة المهتمة بطباعة الرواية تجدها مكتظةً بالزوار، خاصة العنصر النسائي؛ حتى أصبحت الرواية وكأنها هي ديوان العرب، وهذا شيء جيد من حيث تحول المشهد الثقافي، وانتقاله من مرحلة راكدة إلى مرحلة أخرى متحركة فاعلة. الأمر الثاني: بعض الدور المعروفة أصبحت تفتقر إلى الزوار، خاصة العنصر الرجالي، وهذا مؤشر خطير، أزعم، بل أجزم أن من أسبابه هو الأمر الأول. إذن أرى أن يلتفت النقاد الحقيقيون المخلصون لهذه الظاهرة، وأن يحدّوا من انتشارها، فليست كل رواية تستحق النشر والطباعة، وليست كل رواية تستحق القراءة، وليست كل رواية تستحق أن تعيش. * جامعة نجران