حقبة اللانظام والسلام الهش.

أبانت تقارير «هيئة الأمم المتحدة» الصادرة مؤخرًا أرقامًا صادمةً، تؤكد مفارقاتٍ مؤلمة. فقد كشفت أن النزاعات المسلحة أزهقت في عام 2023م أرواح ما لا يقل عن ثلاثة وثلاثين (33) مليون من المدنيين، وبحلول نهاية عام 2024م، بلغ عدد النازحين قسريًا أكثر من مائة وثلاثة وعشرين (123) مليون شخص، أي ما يعادل شخصًا واحدًا من كل (65) شخصٍ على وجه المعمورة. كما تُظْهِر صور الأقمار الصناعية مدنًا كاملة كانت عامرة ثم تحولت إلى ركام وخراب، وهنا يقدح في الذهن سؤالٌ مُلِح: لماذا تتجه البشرية نحو مزيد من العنف، رغم كل ما حققته من رُقي معرفي وتقني؟ وهذا يجعلنا نقف أمام مفارقة صارخة! مؤسسات أممية ينفق عليها ببذخ، ومواثيق دولية يُتَغَنَّى بها في كل مناسبة، ومعدلات أمية منخفضة، وتطور علمي مذهل، وتواصل كوني غير مسبوق، ومع كل هذا، تندلع الحروب الطاحنة، وتشتعل الصراعات المسلحة، وتتناثر أجساد الضحايا المدنيين الأبرياء، وتتدهور حقوق اللاجئين، وكأنهم خٌلِقوا وقودًا لهذه الصراعات. في حين تتآكل الهياكل التقليدية للردع الدولي وتفقد المؤسسات الأممية فاعليتها، التي باتت خاضعة لمنطق الدول الكبرى، ورهينة لمصالحها الجشعة!!! وتشير الإحصائيات الحديثة إلى أن العالم يشهد حاليًا ستة وخمسين (56) صراعًا مسلحًا، وهذا الرقم المفُزِْعِ يعكس حالة من العبثية العالمية لم تشهد البشرية مثيلًا لها من قبل. فبينما كانت الحروب في الماضي محدودة جغرافيًا وزمنيًا، نجدها اليوم تنتشر كالنار في الهشيم، وتخلق شبكة معقدة من العنف والدمار. لقد دخل العالم، منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، في حقبة «اللانظام العالمي» إن تكلفة هذه الصراعات لا تقتصر على الخسائر البشرية فحسب، بل تمتد لتشمل الاقتصاد العالمي الذي بني بالسواعد الإنسانية ورُيَ من عرقها. فقد قدرت الدراسات أن تكلفة الصراعات العالمية بلغت تسعة عشر (19) تريليون دولار أمريكي، وهو مبلغ خيالي، لو تم إنفاقه بِرُشْد، وتوجيهه بحكمة نحو التنمية والبناء بدلًا من الدمار والخراب، لكان كفيلًا بحل مشاكل الجوع والجهل والمرض في جميع أصقاع العالم. ويكون الأمر الأكثر إيلامًا عندما لا يقتصر العنف على مناطق معينة، بل هو عابر للقارات. فقد شهدت «قارة أفريقيا» ثمانية وعشرين (28) صراعًا مسلحا، تليها «قارة آسيا» بـسبعة عشر (17) صراعًا، ثم يأتي «الشرق الأوسط» مهد الصراعات - بـعشرة (10) صراعات، وحتى «قارة أوروبا» التي كانت تُعتبر قارة السلام شهدت ثلاثة (3) صراعات. وتكشف الأرقام المتعلقة بالنزوح عن حجم هذه المأساة المستمرة. فقد بلغ عدد الأطفال المهجّرين بسبب النزاعات والعنف في نهاية عام 2023م. سبعة وأربعين (47) مليون طفل، بما يفوق عدد سكان دول بأكملها. هؤلاء الأطفال لا يفقدون منازلهم فحسب، بل يفقدون طفولتهم وحقهم في التعليم والأمان والاستقرار والدفء الأسري. وهذا المعجم الصراعي للعنف يؤكد أن المشكلة ليست محلية أو إقليمية، بل عالمية وشاملة. إن جميع الأرقام – آنفة الذكر - ليست مجرد إحصائيات رقمية فحسب، بل هي أجراس تقرع بصخب لتسمعنا نداءات الاستغاثة الصادرة من ملايين البشر الذين يصرخون تحت أنقاض العنف، ويتوارون خلف غبار الهروب، ويختنقون بدخان اليأس. قال الشاعر العربي «زهير بن أبي سلمى» في معلقته الشهيرة: وَمَا الحَـرْبُ إِلاَّ مَا عَلِمْتُمْ وَذُقْتُـمُ وَمَا هُـوَ عَنْهَا بِالحَـدِيثِ المُرَجَّـمِ مَتَـى تَبْعَـثُوهَا تَبْعَـثُوهَا ذَمِيْمَـةً وَتَضْـرُ إِذَا ضَرَّيْتُمُـوهَا فَتَضْـرَمِ فَتَعْـرُكُكُمْ عَرْكَ الرَّحَى بِثِفَالِهَـا وَتَلْقَـحْ كِشَـافاً ثُمَّ تُنْتَجْ فَتُتْئِـمِ في الماضي، كانت الحرب حدثًا مؤقتًا بين دولتين أو شعبين متجاورين، يندلع وينطفئ، ثم تتلوه فترة تعافٍ وصلح وإصلاح. أما اليوم، فالحروب أصبحت تثور بين دولٍ تفصل بينهما قارات ومحيطات، وأضحت نمطًا مستمرًا من التآكل المجتمعي والسياسي. فالأزمات لا تنتهي، بل تُرَحَّل، تتجمَد، أو تتحور من شكل إلى آخر. بعض الدول تعيش في حالة شبه حرب منذ عقود، حيث لا سلام يُبنى، ولا حرب تُحْسَم، إذ تتغذّى مصالح صنّاع الأسلحة وتُجّار الحروب على استمرار التوترات والنزاعات، ما يدفعهم إلى تأجيج الصراعات سعيًا وراء مزيدٍ من الأرباح، ولو كان الثمن دماءً ودمارًا. والأمر يكون أكثر إيلامًا حين لا يقتصر النزوح على فترة زمنية محددة، بل يمتد لسنوات وأحيانًا لعقود. فهناك لاجئون فلسطينيون يعيشون في المخيمات منذ أكثر من خمس وسبعين (75) سنة، ولاجئون أفغان منذ أكثر من أربعين (40) سنة، ولاجئون سوريون منذ أكثر من ثلاث عشرة (13) سنة. هذا النزوح المزمن يخلق أجيالًا كاملةً تعيش في حالةٍ من عدم الاستقرار والضياع. آمن «المهاتما غاندي 1869- 1948م» بأن اللاعنف هو أعظم قوة متاحة للبشرية، وأقوى من أي سلاح، وقد أثبتت تجربته في مقاومة الاستعمار البريطاني للهند، أن اللاعنف يمكن أن يكون أداة فعالة للتغيير السياسي والاجتماعي. وله حكمة بالغة «إن العين بالعين، لا تؤدي إلَّا إلى جعل العالم كله أعمى». في حين قال «جان بول سارتر 1905 – 1980م»: «الإنسان محكوم بالاختيار» ما يعني أن العنف ليس قَدَرًا، بل قرارًا يمكن تجاوزه. هذه النظرة الوجودية تضع المسؤولية على عاتق الإنسان نفسه، وتؤكد أن السلام والعنف هما خيارات واعية وليسا نتائج حتمية للظروف. إن هذا التنوع في الرؤى الفلسفية يعكس تعقيد مسألة السلام والعنف. فبينما يرى البعض أن العنف جزء لا يتجزأ من الطبيعة البشرية، يؤكد آخرون أن السلام هو الحالة الطبيعية للإنسان، وأن العنف هو انحراف عن هذه الطبيعة. الحروب لا تُنْهِك الجيوش فقط، بل تَشِل القيم، وتُفتّت المجتمعات، وتترك جراحًا عميقة في الذاكرة الجمعية. وإن التحدي الأكبر الذي يواجه البشرية اليوم ليس تقنيًا أو علميًا، بل أخلاقيًا وإنسانيًا. فنحن نملك كل الأدوات والمعرفة اللازمة لبناء عالم أكثر سلامًا وأشمل عدالةً، لكننا نفتقر إلى الإرادة السياسية والأخلاقية لتحقيق ذلك. فهل يمكن للتقدم التقني أن يتجاوز النزعات العدوانية الكامنة في الطبيعة البشرية؟ لا يمكن الحديث عن بناء السلام دون التطرق إلى دور الإعلام والثقافة. فالإعلام يمكن أن يكون وسيلةً لنشر السلام والتفاهم، كما يمكن أن يكون أداةً لتأجيج الصراعات ونشر الكراهية. إن الطريقة التي يتم بها تناول الأحداث والصراعات في وسائل الإعلام تؤثر بشكل مباشر على تشكيل الرأي العام وتوجهات الشعوب. التناقض بين التقدم المادي، وحالة اللانظام يطرح أسئلة ثِقَال حول طبيعة الحضارة الحديثة. فرغم كل ما حققناه من إنجازات تقنية وعلمية، يبدو أن الإنسان أصبح أكثر قلقًا وتوترًا من أي وقت مضى. هذا القلق الوجودي لا يقتصر على الأفراد فحسب، بل يمتد ليشمل المجتمعات بأكملها، مما يخلق بيئة خصبة لنمو العنف والتطرف. وهكذا، أصبح للتقدم وجهان متضادان، وكأن العالم يُسلِّم مقاليد القوة لمن يملك التكنولوجيا لا لمن يحسن استخدامها. فالذكاء الاصطناعي الذي يمكن أن يساعد في تشخيص الأمراض ويسهم بحل المشاكل الزراعية والبيئية، يُستخدم بشراسة لا نظير لها، في تطوير أسلحة دمار شامل. كما أن الإنترنت الذي كان يُفترض أن يكون شبكةً حُرَّةً للتبادل الفكري، أصبح ساحةً مشرعة الأبواب للحروب الإلكترونية، ونشر المعلومات الكاذبة والمضللة. إن هذا التناقض في استثمار التقدم العلمي يطرح أسئلة جوهرية حول طبيعة الإنسان ومستقبل الحضارة. هل نحن محكومون بأن نحول كل اختراع إلى سلاح للتدمير؟ إن بناء السلام ليس مسؤولية الحكومات والمؤسسات الدولية فحسب، بل مسؤولية كل فرد في المجتمع. فكل واحد منا يمكن أن يُسْهِم في بناء السلام من خلال تعزيز قيم التسامح والحوار في محيطه، ورفض خطابات الكراهية والتحريض، ودعم المبادرات التي تهدف إلى حل النزاعات بالطرق السلمية. وفي الختام أقول لقد آن الأوان أن تعيد البشرية صياغة عقدها الأخلاقي، وأن تجعل الإنسان، بكل ضعفه وتوقه للأمان، هو نقطة البداية والنهاية لأي مشروع سياسي أو اقتصادي. وإن السلام ليس مجرد غياب للحرب، بل هو حالة إيجابية من الازدهار المشترك. وتحقيق هذا السلام يتطلب جهودًا مستمرةً ومتضافرة من جميع أفراد المجتمع الإنساني. فلنجعل من السلام ليس مجرد حلم، بل مشروعًا حضاريًا نعمل جميعًا على تحقيقه.