منحتك ألقاب العلا فادعني باسمي.

عنوان المقال شطر بيت قاله الشاعر “محمود سامي البارودي”، الذي انتزع من خُصومه ومُحبّيه ألقاباً عِدّة، لعل أشهرها “ربّ السيف والقلم”، منحها إياه الشعب لنضاله السياسي، واستمدّها من مكانته كشاعر أصيل، ومع ذلك فقد كان يرى أن المسؤولية أكبر من كلّ الألقاب، ليقول أمام تلك الهالات بكلّ تواضع: مَنحتُكَ ألقابَ العُلا فادعُني باسمي فما تَخفِضُ الألقابُ حُرّاً ولا تُسمي ولكن في الواقع أن للناس مُنذ القِدم ولَعٌ بالألقاب، يُطلقونها على أنفُسهم، ويخلعونها على ذوي الصدارة منهم، وهي ألقاب تتّسم عادةً بالتّفخيم والتّعظيم، سواء بقصد التّفاخر بها أو لمُداهنة بعض من تُخلع عليهم، حتى وإن كانت ألقاباً فضفاضة يتعثّر فيها أصحابها. وعندما وصل العرب في فُتوحاتهم إلى “الأندلس”، لم يفُتهم أن يستنبطوا لأُمرائهم ألقاباً مُستحدَثة، مثل: “المُعتضِد بالله”، و”المُعتصِم بالله”، و”المُعتمِد على الله”.. وهي ألقابٌ ضَجّ منها الشاعر “ابن رشيق القيرواني”، فقال أبياته الشهيرة: مِمّا يُزهّدُني في أرضِ أندَلُسٍ سَماعُ مُقتَدِرٍ فيها ومُعتَضِدِ ألقابُ مَملَكَةٍ في غير موضِعِها كالهِرّ يَحكي انتِفاخاً صولَة الأسَدِ والتّاريخ في القديم والحديث حافلٌ بالألقاب التي أُطلِقت على رجاله، مثل: “ريتشارد قلب الأسد”، و”الإسكندر الأكبر”، و”الفوهرر”، و”الدوتشي” .. الخ. وتقف الألقاب الملكية البريطانية وطبقة النُبَلاء في العصر الحديث مِثالاً للأرستقراطية، وناموساً لا يزال مرعيّاً في “إنجلترا”؛ ومنها: “اللّورد” برُتَبِه الثّلاث “الفيكونت والبارون والإيرل”، وهناك لقب “السّير” الذي يكتسبه كلّ من يُمنح نيشان فارس الإمبراطورية البريطانية، والقانون الإنجليزي لا يمنع منح هذا النيشان واللّقب الذي يقترن به إلى أبناء جنسيّاتٍ أُخرى. وكانت للألقاب في “مصر” الملكيّة شأنٌ عظيم، فبالإضافة إلى ألقاب الأسرة المالكة، فإن ألقاب رجال الدولة كانت تُمنح من قِبَل الملك، وكان هناك شِبه تقليدٍ مرعيّ بأن يكون كلّ الوزراء “باشوات”، كما كانت “الباشوية” تُمنح للشخصيات العامّة ذات الوزن الاقتصادي الهامّ مثل “طلعت حرب”، وظفر عددٌ من الصّحفيين بتلك الرُّتبة؛ من أمثال “فكري أباظة” و”محمد حسين هيكل”، وعددٌ من كبار الأدباء مثل “أحمد لطفي السيّد” و”طه حسين” و”نجيب محفوظ”. ومن الطريف، إن حدث سهواً وخاطب الملك شخصاً بلقب “باشا”، فإن مرسوماً ملكيّاً يصدر على الفور بمنحه هذا اللّقب، على اعتبار أن الملك لا يُمكن أن يُخطيء! ففي إحدى المُناسبات، زار الملك “فاروق” متحفاً، وقام أمين هذا المتحف -وهو موظّفٌ بسيط- بشرح المعروضات أمامه، فناداه الملك سهواً بقوله: “يا باشا”، وعلى الفور تحوّل هذا الموظّف إلى “فُلان باشا”! ولم يحدث أن تنازل شخصٌ عن رُتبة الباشويّة إلا مرّة واحدة، حين تنازل الشيخ “مصطفى عبدالرازق”، وطلب إعفاءه من هذا اللّقب، عند اختياره شيخاً للأزهر، اعتزازاً منه بلقب “الإمام الأكبر”. ويَلي لقب “الباشا” في بروتوكول المنزلة الاجتماعية لقب “بِك”، وكان من الأعراف المُتّبعة منح رُتبة “البكويّة” لكلّ موظّفٍ في الدّولة يصل راتبه الشّهري إلى 60 جٌنيهاً! وعندما جاءت ثورة 1952 قرّرتْ إلغاء جميع هذه الألقاب، ولكنها استبقتْ ألقاب رجال الدّين والسّلك الدبلوماسي والألقاب العلمية والعسكرية.. فماذا بقي!؟حقّاً أن للألقاب دُنياً مُتجدّدة، وصدق الشاعر “حافظ إبراهيم”، القائل: وهل في مِصرَ مَفخَرَةٌ سِوى الألقابٍ والرُّتَبِ؟ فقد كان بعض الناس، وهُم فئة قليلة، من طبقة “الباشوات” و”البكوات”، ولكن ماذا حدث بعد الثورة وإلغاء الألقاب؟ هل عمّتْ المُساواة عباد الله الذين خُلقوا كأسنان المشط؟ لم يحدث في الواقع شيء من هذا القبيل، بل تحوّل أغلب الناس إلى “باشوات”، والبقيّة من المُعذّبين في الأرض والمسحوقين إلى “بكوات”! ولم تكُن “مصر” نسيج وحدها في إلغاء الألقاب، فقد قرّرت كذلك الحكومة اللّبنانية إلغاء الألقاب في نهاية تسعينيّات القرن الماضي؛ فلا “فخامة” ولا “دولة” ولا “معالي” ولا “سعادة”، وإنما يتمّ اعتماد كلمة “السيّد” في التّخاطب، بدلاً من الألقاب السابقة. ولكن كلّنا في الهّمّ شرق، فقد حدث في “لبنان” مثلما حدث في “مصر”، من توزيعٍ للرُّتب والألقاب لمن هَبّ ودَبّ! وانتشرتْ طُرفة تداولها اللبنانيون بعد قرار المنع، تقول: أننا سوف نسمع في “بيروت” مَن يقول لسائق التاكسي: “هل تسمح يا فخامة الشوفير بإيصالي إلى المطار”؟ ويردّ فخامته قائلاً: “أهلين بعبدو الفرّان، تكرم عين معاليكم”!