مع الشعر الحلمنتيشي.

يُعتبر الشّعر المُسمّى بالحلمنتيشي شِعرٌ كامل الأركان والأوصاف من حيث التزامه بشروط وقواعد الشّعر العربي، من وزنٍ وقافية وانتظام في بحرٍ مُعيّن يربط قوام القصيدة من بدايتها إلى نهايتها. وإنما يختلف الشعر الحلمنتيشي عن الشعر العادي بصورته المعروفة، بأنه يطرق أساليباً وأغراضاً تتّسم بالفُكاهة والسخرية، فضلاً عن أن الشاعر الحلمنتيشي لا يجد حرَجاً في أن يُطعّم أبياته ببعض الألفاظ العاميّة، وقد اشتهر هذا الشّعر في البداية في منطقة حوض البحر المتوسط، وتحديداً في السودان ومصر، في بداية القرن العشرين. ويُعتبر الشاعر “حسين شفيق المصري” هو أول من أطلق على هذا النوع من الشّعر بالحلمنتيشي، حيث برز فيه وتسابقتْ الصّحف على نشر قصائده، وعقد له الشُعراء زعامة الشّعر الحلمنتيشي، وعُهدتْ إليه رئاسة تحرير مجلّة “الفُكاهة”، التي نشر من خلالها قصائد عارض فيها قصائد من عيون الشّعر العربي، ومن أبرزها “المُعلّقات العشر” والتي أسماها “المُشعلقات”! أما في بلادنا الغالية، فإن نشأة هذا النوع من الشّعر قد ظهر على يد الشاعر “أحمد قنديل”، حين كان رئيس تحرير صحيفة “صوت الحجاز” في منتصف القرن العشرين.. فقد أراد أن يُفسح للأدباء سجالاتهم، للتخفيف من الصِبغة الرسمية للصحيفة، بتجربة الشّعر الحلمنتيشي، هو والأستاذ “حمزة شحاتة”، ويُطعّمانه بالسخرية والفكاهة، وهو في ظنّهما أقرب الطُّرق إلى جذب القُرّاء، فيستمع إليه عامّة الناس، ويفتح مورداً ماليّاً جديداً للصحيفة، حين تنشره بين جمهرة الناس فيقرأوه. كتب “أحمد قنديل” آنذاك في إحدى قصائده: قُل للسُّراةِ الأولى شادتْ مكارِمهم بُنيانُنا المُتَداعي: اليومُ يومكُمو عبوا القُروش ليومِ القِرشِ واجتمِعوا فوراً لتَنتخِبوا جمعيّةً لَكُمو وما إن نشر “القنديل” هذه القصيدة، حتى تلّقاه قُرّاء الصحيفة بقبول حسِن، فأخذ يتخيّر فيما بعد نُخبة من عيون الشّعر العربي ويُعرِضها مُعارضةً ساخرة مُنطوية على الإصلاح الاجتماعي. وقد أصدر “القنديل” عدّة دواوين شعرية، يحتوي بعضها، مثل “المركاز”، على قصائد من هذا النوع، واستمرّ في كتابتها فيما بعد في زاوية “قناديل”، في صحيفة “عُكاظ” فترة طويلة. ومن تلك القناديل التي نُشرتْ في عام 1974 على سبيل المثال: قُلتُ للعَمّ عبادي بن سفَرْ طَلعَ النّاسُ يَعَمّي للقمَرْ قال: تخصرهُم، فما زِلنا هُنا نحنُ أهل الأرض أبناء البشَرْ نحنُ لا ينقُصنا رملٌ بِها لا ولا ماءٌ وزرعٌ أو حجَرْ قُل لهُم حُطّوا البلايين هُنا تمنعوا الجوع وأصناف القهرْ صِحتُ: لكنّ “الفضا” مُلكٌ لنا صاحَ: يا واد “الفضا” أصلُ الضّررْ والفضا: الأولى بمعنى الفضاء، والثانية بمعنى الفراغ، واللّبيب يفهم! وقد كان للدكتور “غازي القصيبي” قصائد من الشّعر الحلمنتيشي، لعلّ من أشهرها ما كتبهُ في عام 1988 تأييداً للشيخ أبي عبدالرحمن بن عقيل الظاهري، حين تأخّر في إرسال زاويته “تباريح” التي كان ينشرها في “المجلّة العربية”، فأرسل إليه رئيس تحريرها الأستاذ “ حمد القاضي” وُريقةً حثّهُ فيها على سُرعة موافاته بالمقال، والذي أسماه الشيخ “بقرار الفصل”! فقال “غازي” من قصيدة “السناكيح”: يا ابن القُضاة الميامينِ الجحاجيحِ مِن كُلّ شَهمٍ كريم الأصلِ ممدوحِ أما رفقتَ بشيخٍ شاعرٍ فَطِنٍ جَمّ المواهبِ، ذي دِينٍ وتسبيحِ يغوصُ مِن كُلّ بَحرٍ في قرارَتهِ حتى لَتحسِده كُلّ التماسيحِ إنْ رُمتَ فِقهاً فإنّ الفِقهَ صَنعَتُهُ يجلو “المُحلّى” بتفسيرٍ وتوضيحِ أو رُمتَ شِعراً فذا ديوانه حرقٌ يُدمي بدمعٍ من الأعماقِ مسفوحِ أو رُمتَ نثراً أتاكَ النَّثرُ تحسبُهُ مِن رِقّةِ النّسجِ نفحُ البانِ والشّيحِ أو رُمتَ درساً تراهُ في تلامذةٍ إليهِ قد جلسوا بعد التّراويحِ فكَيفَ يا أيُّها القاضي يُباغِتُنا هذا القرارُ بإلغاءِ “التباريحِ”!؟ وفي مُحاورةً حلمنتيشية شهيرة بدأت في عام 1980 وتناقلتها الصّحف، حين اشترى الشيخ “عبدالله بن خميس” داراً في مزرعة “بالعماريّة” قُرب الرياض، وسكن فيها وانتظر إيصال الكهرباء إليها.. ولمّا طال انتظاره كتب إلى الدكتور “القصيبي” وزير الصناعة والكهرباء آنذاك، أبياتاً طريفة يٌخاطبُ فيها دارهُ، منها: على الذُّبالةِ والفانوسِ والجازِ عِيشي ظلامكِ حتى يأذن “الغازي” ولي قرينانِ، لا أنفكُّ دونَهُما أُصاحبُ اللّيل، كَشّافي وعُكّازي هذا يُضيءُ لِخَطوي مُنتهى قَدَمي وذا يٌنفّرُ عنّي كُلّ وخّازِ فأجابه “القصيبي” بأبياتٍ، منها: أعبدالله يا شيخ القوافي ومُرتجل البديعاتِ الظّرافِ هجرتَ النّاس والدُّنيا وحيداً “بعماريّةٍ” وسط الفيافي فتغفو أنت في ظِلّ ظليلٍ وتَمرُكَ يانِعٌ والماءُ صافي وأقرأُ ألفَ معروضٍ وشكوى وتقرأُ أنت أشعار “الرّصافي”! ومن الجدير بالذّكر، أن هنالك طائفة من الشّعراء الآخرين الذين كان لهُم نصيب وافر في هذا النوع من الشّعر، ولكن يضيق المجال عن استعراض إبداعاتهم في هذا المقال، من أمثال: إبراهيم السبيّل، حسن السبع، حسن صيرفي، حسن نصيف، عبدالعزيز خوجة، عبدالعزيز الرفاعي، عبدالله الثميري,, وغيرهم. وختاماً، فقد أصدر الأستاذ “حسين بافقيه كتاباً بعنوان: “ضحكٌ كالبُكا - الشّعر الحلمنتيشي في مباهجه وأحزانه”، والذي ربّما كان عنوانه اقتباساً من بيت شِعرٍ شهيرٍ “للمُتنبّي”ٌ قال فيه: وماذا بمِصرَ مِن المُضحِكاتِ ولكنّهُ ضحكٌ كالبُكا وكتب المؤلّف في خاتمة الكتاب: “بأنّ الشُّعراء الحلمنتيشيين سخروا وضحكوا، وأنّ النّاس كانت تتتّبع قصائدهم في الصُّحف، ويُردّدونها في سمَرهم، لِما فيها من انتقادات وطرافة، لكن الناس قد نسوا أن الشّاعر الحلمنتيشي، الذي أغدق عليهم بالضحك والهزل، كان في الغالب ينظم قصائده والخيبة تعتصره والمأساة تنهشه، فكان ضحكهُ كالبُكاء”!