صورة مصر الخمسينيات في رواية «شقّة الحريّة».

دوّن بعض الأدباء السعوديين مُشاهداتهم وانطباعاتهم وظروف حياتهم، أثناء إقامتهم لعدّة سنوات، في الغالب للدراسة في القاهرة، وذلك في فترات مُبكّرة تعود إلى منتصف القرن العشرين. وحيث أن من الصعوبة بمكان، الإحاطة بكلّ ما كُتب عن تلك الفترة في مساحة المقال المحدودة، فسيُكتفى باقتباس بعض الفقرات المختارة من نموذج أدبي يعكس ظروف الحياة واهتمامات المجتمع وتطوّر الأحداث التي واكبت تلك الفترة الزمنية، وذلك من خلال رواية “شقّة الحريّة” للدكتور غازي القصيبي رحمه الله، الرواية التي تدور أحداثها حول أربعة من الطلاب المُبتَعثين القادمين من البحرين للدراسة في جامعة القاهرة، في الفترة بين 1956 و 1961. ونبدأ من “فؤاد الطارف”، وهو أحد الشخصيات الرئيسة في الرواية، بعد الأسبوع العاشر لإقامته في القاهرة، حيث بدأ يتعوّد عليها، ويألف شوارعها وميادينها وأوتوبيساتها ومقاهيها وأهلها، وبدأ يلمس حرارة الطيبة النابعة من كلّ إنسان ووصل إلى اقتناعٍ أنه لا يوجد في القاهرة شخص واحد لا يُجيد النُّكتة، اختراعاً وروايةً وتمثيلاً. وفي عام 1957، حمل ذلك الصيف الذي قضاه فؤاد في البحرين مُفاجآت لم تكُن في الحُسبان، فبدأ يضيق بالجوّ الخانق في شهر أغسطس، وبدأ يحنّ إلى نسمات “النيل” الباردة. أخذ يُعاني من الجفاف الفكري المُطبق على مُجتمع البحرين، والذي لم يسبق أن لاحظه من قبل، أخذ يفتقد جرائد الصباح والمجلّات، وسور “الأزبكية” حيث يوجد ما لذّ وطاب من كُتبٍ مُستعملة بأرخص الأثمان، وبرامج الراديو الثقافية. وعندما ركب الطائرة قُبيل الفجر مُغادراً البحرين، كانت الدموع تملأ عينيه، وكانت مزيجاً من دموع الألم لفراق أُمّه، ودموع الفرح بقُرب لقاء القاهرة! وكذلك كان شعور زميله “قاسم”، في شهر سبتمبر من عام 1959 بعد أسبوعه الثالث في البحرين، فقد شعر برغبة جامحة في العودة إلى القاهرة؛ اشتاق إلى شقّة الحريّة والنوافذ المفتوحة بحري للنسيم العليل. تذكّر أُمسيات رمضان الرائعة: المصابيح والأطفال والخشّاف والقطايف والياميش، وسهرات مقهى “الفيشاوي” حتى الفجر. تذكّر العيد القاهري، وأطباق الكحك، وأهازيج الصغار، و”البمب” الذي ينهال من البلكونات على رؤوس الغافلين والغافلات في الشارع. وفي شقّة الحريّة، يعود زميلهم “يعقوب” من جولاته الليلية بقصصٍ غريبة؛ فقد تعرّف الليلة على “صلاح عبدالصبور” في بهو فندق الهيلتون وتبادلا إنشاد الأشعار، وتعرّف الليلة على “كامل الشنّاوي” في مقهى بشارع سليمان باشا، وقضى معه أكثر من ساعة يستمع إلى قصّته مع “نجاة”، وتبادل الليلة القفشات مع “فريد شوقي” في عوّامةٍ على النيل! أصبح يعقوب في نظر المجموعة “أبو شلّاخ”: النُّسخة البحرينية “لأبو لمعة”، وأصبحت قصص يعقوب تُسمّى “اليعقوبيات”؛ “كالإسرائيليات”: تضحك منها المجموعة ولا يُصدّقها أحد! وفي شهر سبتمبر 1960، أُعجب رئيس تحرير مجلّة “نادي القصّة” بالمجموعة القصصية، التي كتبها الطالبان فؤاد وعبد الرؤوف، وبلغ من إعجابه أن تطوّع بتقديم المؤلّفين الشابّين إلى الدكتور طه حسين في مكتب عميد كليّة الآداب. قدّم عميد الكلية الدكتور “صابر السيّد” الطالبين إلى طه حسين، الذي رحّب بهما بحرارة، وقال العميد: يا معالي الباشا، فؤاد وعبدالرؤوف من البحرين. ما كاد طه حسين يسمع اسم البحرين حتى ابتسم وأنشد: قلّدتني الملوك من لؤلؤ البحرين آلاءها .. ومن مُرجانهْ نخلة لا تزال للشرق معنى من بداوته إلى عُمرانهْ وأضاف: هل تعرف قصّة هذين البيتين يا دكتور صابر؟ وردّ الدكتور صابر: لا والله يا معالي الباشا. ابتسم طه حسين مرّة أُخرى وقال: أخبره يا أستاذ فؤاد. أستاذ فؤاد! عميد الأدب العربي يُسمّيه أستاذ فؤاد!؟ تردّد فؤاد لحظة ثم تكلّم: عندما بويع “أحمد شوقي” أميراً للشُّعراء، أهدته البحرين نخلة من الذهب، ورُطبها من الفضّة. وبعد تبادل بعض الأحاديث الأدبية، اقترب سكرتير الدكتور طه حسين منه وهو يقول: موعد المُحاضرة يا معالي الباشا. يُغادر المؤلّفان الناشئان المكتب، وهُما لا يُصدّقان أنهما قضيا قُرابة رُبع ساعة يتحاوران مع “عميد الأدب العربي”! وفي المقهى الشعبي البسيط الذي اصطحب رئيس تحرير المجلّة فواد وعبدالرؤوف إليه، جلس “نجيب محفوظ” تُحيط به مجموعة من الأدباء المخضرمين والناشئين، وهو مُجرّد واحد من الشِلّة، حرفوشٌ من الحرافيش.. لا توجد هنا نظرات تقديس، بل مجموعة أصدقاء يتبادلون النُّكت والتعليقات. يُرحّب “نجيب محفوظ” بالطالبين فؤاد وعبدالرؤوف ويُهنّئهما بالفوز في المسابقة، ويستجمع فؤاد أطراف شجاعته، ويتكلّم: •أستاذ نجيب، كيف تكتب رواياتك؟ •بالقلم! يضحك الموجودون، ويحمرّ وجه فؤاد، وبعد ذلك يسأله عبدالرؤوف: •وما رأيك في المرأة يا أستاذ؟ •أنهي فيهُم؟ فتضجّ المجموعة ثانيةً بالضحك، ويشعر عبدالرؤوف بالحرج، ولكنه يواصل: •أعني يا أستاذ، هل يحتاج الأديب إلى حُبّ لكي يُبدع؟ •لا أدري! لا يُصدّق فؤاد أذنيه، فيُقرّر أن يُغامر، فيسأله: •إذن سأسألك عن نفسك يا أستاذ، هل سبق لك أن أحببت؟ •يووه! •كم مرّة!؟ •تلات مرّات في اليوم، قبل الأكل!! ويضحك فؤاد مع الضاحكين. ثم أن رئيس تحرير المجلّة اصطحبهما إلى صالون الأستاذ العقّاد الشهير، الذي يفتح أبوابه ظُهر كل جُمعة، وما أن رأى الأستاذ عنوان الكتاب بعد السلام والتحيّة، حتى بادر فؤاد بالسؤال: “ورقة من بردى دلمون”؟ الكتاب عن “جلجامش” يا مولانا؟ فاحمرّ وجه فؤاد وتلعثم: لا يا أستاذ، اخترنا العنوان رمزاً يدلّ على كلّ من مصر والبحرين. وقال أحد الموجودين: من هو جلجامش يا أستاذ؟ فضحك الأستاذ قائلاً: ما سمعتش عنه يا مولانا؟ ده مُطرب مشهور! وضحك مرّة أخرى، وروى للحاضرين “ملحمة جلجامش” الشعرية بكلّ تفاصيلها. استمرّت الأسئلة والأجوبة، والأستاذ يتكلّم في كلّ موضوع كما لو كان لا يُحسن غيره، وفي تمام الساعة الثانية نهض الأستاذ ونهض الجميع.