« المعلقة»..تجربة المشي لأول مرة.

عند انطلاق الموسم الأول من مسابقة “المعلّقة”، وإدراج قصيدة النثر في مسار خاص بها، إلى جانب مساري الشعر الفصيح والشعر النبطي، دار جدل في الأوساط الثقافية، وتحديدًا بين الشعراء المشتغلين بقصيدة النثر، حول جدوى ومعنى انتقال قصيدة النثر من منصة القراءة إلى مسرح الإلقاء. كان يبدو لنا مثيرًا للسخرية أن تُقدَّم قصيدة النثر في قالب أدائي يشبه ما اعتادت عليه قصائد الشعر الفصيح والنبطي، وأعني بذلك الإلقاء عن ظهر قلب. لم تكن هذه المسألة واضحة أو مفهومة بالنسبة للجمهور والمتلقين، إذ إن الصورة النمطية والطبيعية لقراءة الآداب السردية، مثل القصة والرواية والأوراق العلمية، أنها تُقرأ ورقيًا، وهذا ما ينطبق على قصيدة النثر، التي يكاد حفظها عن ظهر قلب يكون مستحيلًا في بعض التجارب والنصوص. بعد انتهاء الموسم الأول، بكل ما له وما عليه، ورغم أن الفرصة كانت ناجحة تقريبًا لقصائد النثر التي قُدِّمت لأول مرة بهذا الشكل، وما دار حولها من أصداء ونقاشات، اكتشفت، عبر بعض الأصدقاء المشتركين في مسار قصيدة النثر، أن النصوص المشاركة تُقرأ، ولكن ليس من الورق، بل عبر شاشة عرض غير مرئية للمشاهدين. هذا الأمر خفّف من صدمتي واستغرابي تجاه تقديم قصيدة النثر دون قراءة مباشرة من كتاب أو أوراق. مع بدء التحضير للموسم الثاني، تلقيت دعوة كريمة من بعض الأصدقاء الذين اقترحوا اسمي وتجربتي للمشاركة. بعد طول تردد ومخاوف تتعلق بآلية المشاركة والتحكيم، حسمتُ أمري وقررت خوض هذه التجربة، التي بدت لي جديدة ومغامرة كبيرة، لكنها لم تكن مؤثرة على ما أكتب وأؤمن به. حين أُعلنت قائمة الأسماء المشاركة في مسار قصيدة النثر، شعرت بسعادة بالغة، إذ ضمّت تجارب شعرية أحبها وأتوقف عندها دائمًا، مثل الشاعر إبراهيم الحسين، الذي كان علامة بارزة في المشهد الشعري السعودي لسنوات طويلة، وقدم من خلالها تجارب ومشاريع شعرية مهمة عبر قصيدة النثر، حتى اعتبره البعض أحد روادها البارزين. كذلك الشاعر العراقي ميثم راضي، والشاعرة المغربية سكينة حبيب الله، اللذان يُعدّان من الأسماء العربية الحديثة في المشهد الشعري، وتحديدًا في قصيدة النثر. إلى جانب بقية الأسماء المشاركة، التي اكتشفت أثناء التحضير للحلقات مدى أهمية تجاربها وإسهاماتها الشعرية. من أبرز إسهامات هذه التجربة أنها خلقت أجواء مميزة بين الشعراء المشاركين في المسارات الثلاثة، ومنحتهم مساحة للنقاشات والحوارات، مما ساعدهم على اكتشاف تجارب بعضهم البعض. كما أنها كانت فرصة مهمة لتعريف الكثير من الشعراء، وخصوصًا شعراء القصيدة النبطية، بقصيدة النثر وتنوعها. وقد تلقّوها بوعي ولطف من خلال كتابها، أكثر مما سمعوا عنها أو حكموا عليها مسبقًا. بل إن البعض منهم، بكل روح جميلة، تساءل عند لقائنا بهم: ما هي قصيدة النثر؟ وكيف تُكتب؟ وما هي شروط كتابتها، خاصة أنها بلا وزن أو قافية؟ أسئلة كبرى، لكنها حين قُدّمت لهم ببساطة، راقت لهم كثيرًا، وأبدوا دهشتهم من جمالها وأهميتها. بالنسبة لي، كانت التجربة مختلفة جذريًا عن أمسياتي الشعرية السابقة والمشاركات الثقافية الأخرى، إذ كان الدخول إلى عالم التسجيل التلفزيوني يعني التعامل مع أدبياته وإجراءاته، والوقوف على مسرح تلفزيوني أمام لجنة تحكيم، وجمهور، وكاميرات، ومعدات تقنية مختلفة. ما كان مدهشًا وجميلًا بالنسبة لي هو أن هذه التجربة أصبحت إعلانًا غير متوقع عني في الوسط الاجتماعي الذي أنتمي إليه، سواء بين الأقارب أو الأصدقاء أو حتى زملاء العمل. فجأة، وبدون مقدمات، أصبحتُ شاعرًا في نظرهم. طوال تجربتي الأدبية، التي كتبت خلالها القصة والشعر، أو بالأصح قصيدة النثر، لم أطرح اسمي علنًا قبل هذه المشاركة. فجاءت شاشة “الثقافية” و”إم بي سي” لتقدمني فجأة إلى هذا المحيط، وكانت ردود الفعل التي تلقيتها مدهشة وجميلة. ولأنها مسابقة، كان التشجيع والمؤازرة أكثر من التركيز على فحوى قصيدة النثر وعمق موضوعاتها واشتغالها الشعري. بعد نهاية المرحلة الأولى، حيث كانت مشاركتي أمام الشاعر الجميل مهدي بن حسين، الذي قدم نصًا إبداعيًا بامتياز، انتبهتُ إلى مسألة في غاية الأهمية، لكن للأسف جاء انتباهي متأخرًا. وهي فكرة التنافس الشعري، وانتصار نص على آخر، وهي برأيي ليست من روح قصيدة النثر، التي تقوم على فردانية لا تؤمن، أو على الأقل لا ينبغي لها أن تؤمن، بالسلوكيات النمطية التي كانت جزءًا من تاريخ التجارب الشعرية الكلاسيكية والتقليدية، مثل المنبر، والفوز والخسارة، والأعراف التي ساهمت بشكل غير مباشر في تعطيل مسيرة الشعر عبر التاريخ. بالطبع، هذه مجرد أفكار راودتني حينها، لكنها لم تغيّر، بطبيعة الحال، ما كنت قد أقدمتُ عليه، أو ما هو قائم أصلًا. وقد تكون تجربة قصيدة النثر قادرة، مع مرور الوقت، على تجاوز هذه المسألة، وخلق حالة شعرية جديدة للعامة والمشاهدين وللشعراء أنفسهم. بعد خروجي من المسابقة، بادرني أحد الأصدقاء المشتغلين بكتابة قصيدة النثر بسؤال: هل تنصحني بالمشاركة في الموسم القادم؟ ترددتُ كثيرًا قبل الإجابة، فهي تجربة جميلة وممتعة، تساهم في التعريف باسمك ومشروعك الشعري، ولا ضير فيها إن كنت في بداياتك، وقادرًا على حماية نفسك من أثر الخسارة والخروج، والنظر إليها كمجرد تجربة، وليست معيارًا يحكم عليك كشاعر من عدمه. وهي بلا شك مشروع ثقافي كبير، لا يزال في بدايته، وقادر على التطور من موسم إلى آخر. فقد استطاعت قصيدة النثر، من خلال هذا البرنامج، أن تضع لها قدمًا في المشهد الثقافي العام، متجاوزة الجدليات التاريخية العقيمة التي تتساءل عمّا إذا كانت قصيدة النثر شعرًا أم لا. لكن، يبقى هناك مطلب مستقبلي مهم، وهو رفع عدد المشاركين، وكذلك إضافة لجنة تحكيم خاصة بقصيدة النثر، بحيث تكون على قدم المساواة مع بقية المسارات الشعرية الأخرى، دون التقليل من جهود لجنة التحكيم الحالية، التي تقوم، مشكورة، بتحكيم مسار الشعر الفصيح وقصيدة النثر معًا، مقارنة بلجنة الشعر النبطي المستقلة.