خريف الديالكتيك.
علا الصراخ بين أربعة فلاسفة حول السؤال: لماذا كان ماء البحر مالحا؟ فالأول يقول: كان ماء البحر عذبا سائغا، ولكن أمواجه اقترفت معصية الرقص، فمُسخ إلى مالح. الثاني أنكر بشدة هذا القول، بل اعتبره قولا منكرا وقال: كثر الواردون على البحر، فخشي على نفسه من النفاد، فلبس ثوبا من الملح لردعهم عن استنزافه، الثالث قال: سبب الملوحة داء خفي يسمى (دردشان) لم يكتشف له دواء بعد. أما الفيلسوف الرابع فقد وضع أصابعه في أذنيه من وقع هذه الآراء البعيدة عن الصواب في نظره وقال: سحقا لهذه الآراء التي لم تر نور الحكمة وتدعي أنها شربت كأس الفلسفة حتى الثمالة، إن ماء البحر ليس مالحا ولكن (ومن يك ذا فم مر مريض / يجد مرا به الماء الزلالا) نعم. إننا نجد أكثر الأشياء كما نود أن نراها لا كما هي في الواقع ،الأمر الذي يوقع الإنسان في أخطاء وعثرات متتالية، ما لم يلجم التيار العاطفي في داخله، وهذا لا يقدر عليه إلا من قرأ الواقع قراءة علمية، تتسم بالموضوعية الصارمة. السؤال الآن موجّه إليك: لو عدنا إلى قراءة آراء الفلاسفة المتقدمة، ترى أي فيلسوف منهم قال الصواب أو قريبا منه في نظرك؟ هنا ميدان العاطفة، وجوابك هو الذي يحدد مداها عندك. وسيختلف بالتأكيد الجواب من قارئ إلى آخر: فالذي جرفته الميتافيزيقا سيرى في قول الفيلسوف الأول الصواب الذي لا يقرب منه الشك. أما القارئ المؤيد لرأي الفيلسوف الثاني فيؤكد على أن حفظ الحياة أهم ما يشغل كل حي، وبما أن الحياة لا تستمر إلا بالماء اعتبر هذا الفيلسوف الماء حيا من الأحياء وكل حي لابد أن يحافظ على حياته، فماء البحر كسائر الأحياء يحافظ على نفسه. مؤيد الفيلسوف الثالث يستند إلى العلم ويقول: إن الطب سيصل إلى اكتشاف هذا المرض قريبا، فلا مبرر لإنكاره. المشكلة تتعقّد أمام قارئ الفيلسوف الرابع، فإن كان من أصحاب أبي العلاء المعري الذي يعتبر المتنبي محتلا للقمة الشعرية وحده، يجد أن الفيلسوف الرابع على حق، وإن كان من أصحاب الشيخ عبدالله القصيمي أمطر الفيلسوف سبا وازدراء حتى مطلع الفجر، لا كرها له أو لمعنى بيت المتنبي، بل كرها للمتنبي نفسه.