حقيقةٌ بيانية!
لا أظن عبد القاهر، وهو يؤسس نظرية النظم، ويفصّل في أن الألفاظ خدم للمعاني، وأن ترتيب المعاني في النفس قبل ترتيب الألفاظ في النطق = ينطلق من مشروع أشعري، وإن كان هذا النظر متسقا مع مقولة الكلام النفسي عند الأشاعرة، فلو كان الأمر كذلك لما راجت نظرية النظم إلا في تطبيقات الأشاعرة، ولما وجدت صداها عند أكثر المفسرين، وأبرزهم الزمخشري وهو معتزلي ضالع في الاعتزال، ومع ذلك يقرر ما قرره عبد القاهر. فإن قيل إنهم طبّقوا نظرية النظم، ولم يربطوا بين المعاني النفسية والكلام النفسي الإلهي في مقولة الأشاعرة، أقول: وهذا ما يعزز أن نظرية النظم ليست فكرا أشعريا، وإنما هي فكرة بيانية راسخة في اللسان العربي، وما قرّره عبد القاهر في أن الألفاظ تابعة للمعاني قرّره ابن جني، والجاحظ من قبل، بل وكل النقاد على هذا المذهب في أن الألفاظ أوعية المعاني. وما يعنيه عبد القاهر بترتيب المعاني في النفس قبل ترتيبها في النطق لا يعني أنّ ذلك على التراخي، وإنما القصد أن المعنى منبتُ اللفظ وبذرته، فلو نسقت بذور جرحير مثلا، أو نعناع، أو أي نجم أرضي في جادّة لنبت على النسق ذاته، والتمثيل هنا لبيان وجه الارتباط بين المعاني والألفاظ في أنه لا تكون نبتة حتى تكون بذرة، والأمر كذلك في الكلام المنظوم فإنّه لا يكون إسناد حتى يكون هناك فكر، وأما نظم الألفاظ كيفما اتفق، على عسره، فليس سوى رصف صوتي للكلام على غير نسق من المعاني، وهذا لا يكون حتى في كلام المجانين؛ لأنّه حتى الهذيان أحيانا يقع على النسق، اللهم إلا إذا جعلناه كعدّ حبات الجوز بلا نظام، وإنما نظم اعتباطي بلا دلالات ولا معان وهذا خارج عن سياق الفكر، وتبعا لذلك عن سياق النظم. والمهم أنّ ما قرّره عبد القاهر حقيقة بيانية لا عقيدة أشعرية، واتساق ما ذهب إليه مع مقولة الكلام النفسي لا يعني أنّه يؤسس لها من خلال فكرة النظم، وإن كان تكوينه المعرفي داعما لها في ذلك، كما لا يعني صحة مقولة الكلام النفسي فيما يخص كلام الله، لأنّ كلام الله صفة من صفاته، وتدبّره في القرآن المنزل غير القول في حقيقته؛ وقد خاطب الله العرب في القرآن بمعهود خطابهم وعلى سننهم في الكلام، كما قرر ذلك الشافعي في الرسالة، وابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن، والشاطبي في الموافقات.