سادن!

 في رواية (سادن) للدكتور جريدي المنصوري يتداخل زمنان سرديان، زمن يتجه قُدُمًا على خط مستقيم هو زمن السرد المطرد بحثا عن الجمل غراب، وهو ذاته طريق جهار وذيبان الذي يقطعانه معا في رفقة تُظْهِرُ وتُبْطِنُ، وتحاور وتناور، ومن خلالهما تكشف الرواية أبعادا مختلفة من الخطاب إشارة وترميزا وإسقاطا ساخرا بصيغة حوارية متقنة. وفي الوقت ذاته يظهر الزمن الآخر في ارتداد معاكس، هو زمن الذاكرة ومن خلاله يكشف السارد عن أبعاد الشخصيات وامتدادها تأثيلا ووصفا في توازن مع خطاب الرواية الذي يتشكّل من تعانق الزمنين في بناء النص السردي بإحكام دون أن يفلت خيط الحكاية الأصلي الذي منح النص تماسكا بنائيا منذ شرع جهار ورفيقه ذيبان في البحث عن غراب، الجمل المفقود، الذي كان حبكة السارد في بناء حكايته وبناء نصّه معا.  أثناء تتبّع هذا الخيط السردي في نسيج الرواية لم يكن السارد يغفل عن ترابط الأحداث من جهة، ولا عن بناء شخصياته وتأثيلها عبر خط الزمن الآخر، زمن الذاكرة، من جهة أخرى. في المقابل، وهو الأكثر كثافة وتقانة، كان المكان حاضرا بكل أبعاده، وكان الوصف، في مقابل السرد الزمني، لا يغفل تفاصيل المكان وبقدرة سردية متقنة على الإحاطة مما منح النص الروائي كثافة مكانية جعلت الرواية مرجعا للفضاء المكاني الذي جرت فيه أحداثها، في مركزية لديار بني سعد ومدينة الطائف وما حولها من القرى والتضاريس من جبال وأودية وشعاب كان السارد يتتبعها بأسمائها في خارطة الرواية المكانية. رواية ذات كثافة عالية، مكتنزة بالدلالات والمسارات السردية؛ ففيها الاجتماعي والثقافي والأدبي والأسطوري، وقد جمع السارد هذا كله في بناء متماسك في عناصره وسبب ذلك، في نظري، أنه وفّق في اختيار لحظة الانطلاق والإمساك بخيط السرد الذي كان في طرفه الآخر غراب، غراب الجمل المفقود، فكان هذا الفقد هو حبكة الرواية لا على مستوى السرد وحسب، وإنما على مستوى السدو، أو النسيج، واختياري هنا لمفردة السدو من باب التشاكل اللفظي مع مفردة السرد، فقد كانت الرواية في تنوّعها وتداخل خيوط السرد فيها أشبه بسدو يفتل منه السارد نسيج النص السردي بإحكام. لقد كان الروائي ساردا وسادنا، مثله مثل جهار الذي يبدو من خلال الرواية أنه الأقرب إلى قلب وعقل الروائي، فهو البطل الرئيس وهو منطلق أحداث الرواية وذاكرتها، وهو الذي نبتت الرواية من بذرة حكايته وانتهت به. وإن كان ثمة من ملحوظة ففي حرص الروائي على ربط جهار في بعده الأسطوري باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، وجعله رابعا من خلال نبش ذاكرة الصنم جهار، دون أن يضيف ذلك للرواية دلالة عميقة كان من الممكن تحويرها وتحويلها إلى عالم عبقر المرتبط بالشعر، وهو الأكثر ارتباطا بمدينة الطائف، بعيدا عن الحفر عن صنم والإلحاح على بعثه وهو لا يخدم الرواية. والمهم أن رواية سادن راسخة الجذور في المكان وثقافته ورمزيّته التاريخية وموروثه الشعبي وأساطيره وحكاياته، وقد نجح الروائي في جعل الرواية ذاكرة وأيقونة سردية لمدينة الطائف وما جاورها من القرى بما فيها من الجبال والأودية والشعاب، فكان ساردا وسادنا بطريقته التي جمعت إلى السرد والوصف، الظرف والسخرية الرشيقة التي تخللت الحوار حينا والأحداث حينا آخر، فلم تكن ناتئة على السطور ولا متكلّفة، بل كانت تعكس روح السارد وحسّه الفكاهي في الحكي والإسقاط الظريف. سادن هي هدية د. جريدي المنصوري للوسط الثقافي والإبداعي بعد غياب أو انشغال بالأعمال الإدارية في الجامعة واللجان الثقافية في سوق عكاظ، السوق التي كان لها نصيب وافر من ذاكرة السارد في هذه الرواية المحتشدة بأسماء القرى والأودية والديار.