في كتاب « بين الشعر والثقافة» لسليمان عبد العزيز العتيق ..
مراجعات فكرية ورؤى نقدية وتأملات عميقة.
كتاب يجمع بين القراءة الناقدة لآراء أربعة من أصحاب الرؤى والأفكار من الذين اختلفت حولهم الآراء وتباينت المواقف وقضايا ثقافية أخرى، ونماذج من شعر المؤلف تكاد تؤلف ديواناً شعريّا كاملاً، ولا أظنّ أن تستقيم قراءتي لهذا الكتاب دون أن أفرد له مقالتين: الأولى تقارب الأفكار ووجهات النظر الخاصة بالمؤلف والثانية تعمد إلى النظر في الأشعار وتحاول أن تتأمّل رؤاها وجمالياتها ضمن الحدود المتاحة والإطار المناسب. ولعلي لا أجانب الصواب إذا وصفت ما كتبه في قراءته لأفكار الأربعة الأعلام سيرة ثقافية؛ بل جانب ربما يكون ضئيلاً من هذه السيرة؛ ولكنه مؤشر مًهمّ على اهتماماته وتوجّهاته. يقول الكاتب في المقدمة عن كتابه “جاء على نهج كتب الأوائل كالأصفهاني في الأغاني والجاحظ في البيان والتبيين والمؤانسة للتوحيدي؛ بل وفي كتب العلم الشرعي كالإحياء عند الغزالي، فتجد خليطاً من الشعر يُعَقِّب على ما كتبته نثراً”. وأضاف مُدقّقا: “ولم تكن في غالبيتها تتحرّى أن تكون تعقيباً على ما كتبت نثراً”. ولهذا آثرت أن أتناول الشعر في مقالة مستقلة في محاولة لالتقاط بعض ملامح الشعريّة لدى المؤلف الشاعر. يرى المؤلف بعد أن يستعرض هموم الكُتّاب والقراء، وما يخالج نفوسهم وما يدفعونه ثمناً من حياتهم والاجتماعيّة والنفسيّة أن الكتابة من أسباب سكينة القلوب وانشراح الصدور ومُتع الحياة وغسل الهموم، وهي كذلك نشوة غامرة بتحقيق الذات، وقد قرن هذه النشوة - التي ربما وجد الكتّاب ألّا طائل من وراء ما يكتبون - بلَذّة العبادة التي تعلو عليها، ولم يتوانَ عن إسداء النّصح للقرّاء بأن يعوّدوا أنفسهم على القراءة و الكتابة مستشهداً بأقوالٍ للشيخ على الطنطاوي، مُعرِّجاً على تجربته الذاتيّة في هذا المجال، مُشيراً إلى نهجه في القراءة المتبعثرة (كما وصفها) داعياً إلى تجنُّبها باختطاط منهجٍ لها، ومضى في رؤيته التربويّة مرشداً وناصحاً بحرّية الاختيار؛ محذِّراً من الاغترار بالمجاملات الخادعة، وضرورة الاستهداء بالمشورة الناصحة، متحدّثا عمن رأى أنهم أفادوه في هذا المجال ودعَّموه معنويّاً، واختتم مقولاته تللك بآية كريمة “ ألم ترَ كيف ضربَ الله مثلاً كلمةً طيّبةً كشجرةٍ طيّبةٍ أصلُها ثابت وفرعُها في السماء “وهو هنا يطرح وجهة نظر لها أبعادها التربوية. وفي مقالة تالية تحدّث عن نقد الشيخ عبد الرحمن بن عقيل لقصيدة له موجهة للقصيمي تحت عنوان (رسالة إلى عبد الله القصيمي) يأخذ فيها على الشاعر حشده في مدخل القصيدة لألفاظٍ في توصيف حالة القصيمي لا توحي بحال الرّجل ولا تناسب الشعر ذاته، مثل (هوى وجوى ونشيج وصياح ودموع وريح وأعاصير وذئاب)؛ وقد ردّ عليه المؤلف بأن ذلك التصوير الأقرب لحاله مستعرضا لفكره وما تميّز به من عنفٍ وصَلَف على حد تعبيره، مستعيناً بما وصَف به ابن عقيل القصيمي في كتابه (ليلة في جاردن ستي) ص50 “وبما أن القصيمي غير مخلص للفكر – كما يقول - أصبحت مؤلفاته عويلاً و صراخاً ... إلخ” ومضى في الحديث عن سمات كتاباته بما يؤكّد رؤيته ويصف حالته بتضخّم الذات بشكل مَرَضيٍّ مُزمن مستشهداً بقوله: “ ولو أن ما عندي من العلم والفضل يقسم في الآفاق أغنى عن الرسل” وقد فسّر هجومه على المتنبي بغيرته من شهرته وأنه يكتب بلا رؤية ولا هدف، كما يتجلى في كتابه (هذه هي الأغلال) وأشار إلى ما في كتابه (العالم ليس عقلاً) من تجديف كما يرى، وأشار إلى مقولته “ إني أتشاءم لأنني لا أستطيع أن أكون إلها” ويستشهد بكثير مما جاء في كتبه على صحة رأيه فيه ، من ذلك قوله في كتابه (عاشق لعار التاريخ) “ إني أنقد الحياة لأني أعيشها بمعاناة ، بتفاهة، بلا شروط، بلا اقتناع ، بلا نظرية” ولا يخفى على القارئ أن هذا الرد لا يخلو من المنطق وفق السياق الذي جاء فيه دون القطع بموقف حّدّي انتصاراً للمؤلف أو إدانة للطرف الآخر، وقد عمد الكاتب إلى تحليل مقولاته مستحضرا موقف الإسلام من الحياة والوجود عبر استشهاده بآي الذكر الحكيم ردّا على تشاؤم القصيمي ومعاناته النفسيّة وعلى اعتراضه على قدر الله واختياره واصفاً ذلك بالتجديف والهرطقة مستشهداً بكتاب سليمان الخراشي ( عبد الله القصيمي – وجهة نظر أخرى) الذي وصف أقواله بالتمحوُرِ حول الذات؛ ففي كتابه (هذه هي الأغلال) كتب على الغلاف الخارجي” سيقول مؤرخو الفكر إنه بهذا الكتاب بدأت الأمم العربية تبصر طريق العقل” وقد انتهى المؤلف إلى القول: “ لو أنّنا جمعنا كل تلك الأسباب التي ذُكرت من عقدة القضاء والقدر ومن الكبرياء وتضخُّم الذات ومن الهيام بالمجد الأدبي ومن الحسد للمنافس ومن الرغبة بالتحلّل من تكاليف الشرع أقول: لو أننا جمعناها في شخصٍ واحدٍ وهي مجتمعة بالقصيمي كما هو واضح لكانت وبلا شك كفيلة بأن تكون سبيلا في تحوّله أو تحوّل غيره من الهدى إلى الضلال” ، ومهما يكن من أمر فإن هذا الرد جاء متّسقاً مع ما ساقه من أقواله المقتبسة من كتبه وممن كتبوا حول آرائه المدوّنة في مؤلفاته كما وردت على ألسنتهم. وفي حديثه عن (جار الله الحميد) الأديب الراحل الذي وصفه بأنه لا يقف بقارئه عند التفاصيل؛ ولكنه يُلقي عليه ومضةً مبهمةً تأخذه إلى ما يشغل خواطره بتفسير ما يقرأ ويلحُّ على ذاكرته ويحتار قارئه حول ما يقرؤه له أنثر أم هو توهُّجات وَجدٍ شعريّة ، وهذا التوصيف ينطوي على رؤية نقديّة عميقة حقاً تلتقط برهافة وذوق مصقول خصيصة جمالية تتجاوز التقعيد والتقنين إلى القبض على نبض النص واستقرائه بشفافية علية وذوق رهيف، وقد استرجع المؤلف في لفتةٍ تؤرخ للثقافة الأدبيّة في المملكة وفي حائل على وجه الخصوص المدينة التي أحببت - على المستوى الوجداني الشخصي - وعشت فيها قرابة ربع قرن، فقد ذكر أمسية شعريّة رتب لها الأستاذ محمد القشعمي الكاتب المؤرخ الذي كان لي شرف اللقاء به في ثلاثية محمد السيف في حفل تكريميٍّ أقامه له في استراحته الخاصة، وقد أشار المؤلف إلى أنه كان يدير فرع رعاية الشباب، وقد حضرها محمد نصر الله والشاعر عبد الله الصيخان و عدد من الأدباء، ويستذكر قصيدته التي ألقاها في تلك الأمسية التي بكى فيها على بيروت، وكان ذلك قبل أن يكون لي شرف المجيء إلى حائل عام 1983 م ، وقد استذكر ما ردّده الحميد من أبيات عن الحزن لصلاح عبد الصبور في ديوانه (أقول لكم ) إذ ألقى المؤلف الشاعر قصيدته التي جاء في مطلعها (بيروت يا ذات القباب الداكنة) مقارناً بين طبيعة حزنه لحدث عام وحزن عبد الصبور المبهم المجهول الأسباب، وتلك ملاحظة نقدية توازن بين ضروب من الرؤى مستشعرا الفرق بين أحاسيس كامنة منقّباً عن جذورها، وقد خاطب جار الله متسائلاً عما إذا كان حزنه أشبه بحزن صلاح عبد الصبور لمجرد الحزن ذاته داعياً إياه إلى الخروج من أجواء الكآبة إلى رحاب الأمل و انعتاق الروح، ويقول عنه “إني أحب تغريد هذا الطائر” مستحضرا قول الأديب الأرجنتيني الشهير” لا أحد يسأل عن تغريدة الكناري أو غروب شمس جميل” ويصفه بأنه مجموعة مشاعر ولمحات لمعاناة مبهمة تحملك على تذوّقها واستعذابها” يصف العتيق تلك الأمسية بأنها الأولى في حائل، كما وقف عند شخصيّة القشعمي الذي وصفه بأنه ذو روح منفتحة على كل الأطياف؛ كذلك الدكتور محمد السيف الذي وصفه بالإلحاح والتفاني لإيقاظ الروح الثقافية الأدبية بحائل، ووصفهما معا (القشعمي والسيف بأنهما يملكان ذات الروح وذات الإصرار الثقافي لخدمة الأدب والثقافة) ولا أعتقد أنه كان مجاملاً في ذلك وإنما صدر عن شعور صادق ووفاء جميل. وقد أفرد للرياضة وكرة القدم مقاربةً خاصة وصفها فيها بأنها السّحر الحلال، وتحدث عن نادي الطائي والجبلين والحماس لهما في حائل، وما يرافق المباراة بينهما من ظواهر الحركة في المدينة اجتماعياً ونفسيّاً ووصف آثار كرة القدم بعامة بأنها تًخرج المرء من صخب هذا العالم وضجيجه ومشاغله فهي محطة ارتياح ونسيان (فهي متعة نظيفة طاهرة وحماس بريء) ومرفأ سلام وبرّ أمان من المخدرات والانحرافات الفكرية والسلوكية، ويتحدث عن جماهير الناديين وصِفات رئيسيهما، ولا يغفل عن ذكر سلبيات كرة القدم والتعصّب الأعمى ، وقد لامس وتراً حسّاساً ردّ فيه على من يزعمون عبثية هذه الرياضة واعتبرها ثقافةً لها دور اجتماعي ونفسي. وفي مقالته التي عنونها بـ( شجرة الكراهية من الذي زرعها ومن الذي يغذيها؟) تحدّث فيها عن أمريكا وكأنّه يستبصر ما فعلته اليوم من تزويدها للكيان الصهيوني للإمعان في الإبادة الجماعية في فلسطين، فيسترجع تاريخ الإبادة الجماعية للهنود الحمر، وما ارتكبوه من جرائم القتل والدمار وكشف ادّعاء زعمائهم بأن الله أمرهم بتلك الأفعال الوحشيّة في سكان أمريكا الأصليين و في الفلبين و اليابان وألمانيا إبان الحرب العالمية الثانية، وتصريحات زعمائهم المُستهجنة والمُنكرة إذ يورد قول جورج بوش” إن الله أمره أن يخوض الحرب في أفغانستان والعراق، ويستشهد بما جاء في كتاب فهد العرابي الحارثي (أمريكا التي تعلمنا الديمقراطية والعقل) حيث روى قول الرئيس الأمريكي ويليام ماكنلي إن السيد المسيح زاره في المنام وأمره بالذهاب إلى الفلبين لكي يجعل شعبها يتمتّع بالحضارة، كذلك فإن ريجن وصف أمريكا بأنها أمة مباركة ويستشهد بقول نعوم تشومسكي: لقد قتل الأمريكيون ما يقرب من 12 مليون من السكان الأصليين، وجاء على لسان جورج بوش “ إن طرد الهنود من أوطانهم بقوة السلاح لا يختلف عن طرد الوحوش المفترسة من غاباتها “ ونشروا الجدري بين سكانها، وهاهي الصورة ذاتها تتكرّر في غزة ؛ فملّة الكفر واحدة “ وأقصد بالكفر هنا التنكّر للقيم الإنسانية . أما فيما يتعلق بقراءته لآراء الأستاذ إبراهيم البليهي؛ فيتحدّث عن حرقته وألمه؛ ولكنه يتساءل عما إذا كانت حرقة مُحبٍّ غيورٍ شفيقٍ أم مجرد جَلدٍ للذات ورغبة في الشهرة، مُشيراً إلى حجم التوصيف البائس والتحقير والاستهانة التي يردّدها في إيماءةٍ إلى ما قام به القصيمي وسلمان رشدي اللذين طبقت شهرتهما الآفاق مستشهداً بالآية الكريمة (أفمن زُيّن له سوء عمله فرآه حسناً) مشيداً باعتزاز البليهي بالإسلام في حواراته كما وردت في كتاب خضير الشريهي (البليهي في حوارات الفكر و الثقافة) ولكنه لايجد ذلك خارج هذا الثناء القولي في تمجيده للحضارة الغربية ، مُرَكِّزاً على استبعاد الليبرالية التي يؤمن بها منكراً شاهديّة الخالق على أعمال خلقه ومتحدّثا عن مآلات الحرية التي ينادون بها التي انتهت بهم إلى الإباحيّة وهدم الأسرة واحتلال أوطان الآخرين، والمبالغة في القتل مشيراً إلى فضائل الإسلام في هذا الجانب، ومُعقِّباً على ما دعا إليه من الأخذ بالتقانات والنُّظم والآليات عن الغرب؛ أما الفكر فقد وصل إلى طريق مسدود، وهو مَقتَل حضارة الغرب التي قضت على الأسرة وقلّلت المواليد فشاخت المجتمعات وتقلّص عدد السكان وشاعت المِثليّة والعلاقات المحرّمة، مشيراً إلى ماوصفها البليهي بالثقافة المدهشة التي قتلت مليون عراقيٍّ وسلبت خيرات الشعوب ، ولعلي في المقالة التي سأخصصها للشعر أستوفي هذالموضوع إن شاء الله.