الغصن والطائر.

(ومشبَّه بالغصن قلبي لا يزال عليه طائر) دعنا، نلعب لغويا، فنسجّي أمامنا هذا البيت لنسأل: أي نوع من الطيور كان يتأرجح على قلب البهاء زهير؟ وهل طيوره تماثل تلك التي نراها مغرّدة فرحة على الأغصان أم هي طيور من نوع آخر؟ وهل كان قلبه مثقلا بها أم مرتاحا؟ إنه لم يترك أمامنا أي إشارة توحي بذا أو بذاك. وقد فعل فعلا جماليا، بدون قصد منه، حين ترك الباب مفتوحا أمام من تتسع عيناه كلما اتسعت الرؤية الشعرية بما يضيف إليها خياله من إضافة إيحائية. الغصن لا يختار الطائر الذي يحل عليه، فقد يكون من فئة (عصافير الشوك) التي لا تموت إلا وهي تغني، وقد يكون غرابا ينعب مرة واحدة؛ لأنه ــ حسب القدماء ــ إذا نعب ثانية زال الشؤم من صوته. وهذا لا يدركه إلا الراسخون في الخرافة. كذلك القلب إذا امتلأ حبا، لا يختار من يحتله أو يحل عليه، ومن هنا تنفتح أمامنا ثغرة سوداء، فالتشبيه بالطائر يحتوي على نوع من التشاؤم والحس بالزوال ،لأن الثبات ليس من طبيعة الطيور. ومن هنا لعنة الحب. إنه فرار الطائر، غير مبال ببكاء الغصن. سحائب الدموع ورياح الآهات التي نراها في الشعر الوجداني منذ وجد، صدقا كان أو ادعاء، كلها هطلت بسبب فرار هذا الطائر، وبقاء الغصن يتجرع سكرات الفراق. ولكن قد يكون الغصن هو الذي أدركه الملل، لا الطائر. وهذا ما نجد الأمثلة عليه ملء السمع والبصر. إنها مشكلة وجودية ملازمة نفسيا للحياة البشرية. ومن قرأ (طوق الحمامة) لابن حزم لا بد أن يعجب من كثرة الانعطافات والتحولات التي تصيب الطائر والغصن معا، وهي أحوال أدركها ابن حزم بالمعاناة حين أحب فتاة شقراء، كما يقول، ثم سكت ولم يقل لنا ما وراء ذلك، ولا ما أمامه. ترى مَن الأسعد حياة، أولئك الذين ذاقوا حلاوة عناق الغصن والطائر، ثم تجرعوا مرارة تنافرهما، أم الذين عاشوا عيشة مقفلة على نفسها، راضية بانتسابها للأحجار، فلم يحل على قلوبهم أي طائر، ولم يعرفوا أنهم يحملون في داخلهم أغصانا؟ ستجيب، باعتبارك شاعرا أو فيلسوفا، بأنك تفضل الحياة لا العيش فقط، وأن قلبك لم يخلق إلا ليحب ويحب، أما أنا فلا أعرف ما أريد.