وانطفأ الفنار .

كانت السفن تجري إلى الميناء مطمئنة آمنة، فها هو الفنار الثاقب يبسط أشعته، فتبدو الأمواج نفسها، وقد توشحت بالأضواء. وكانت الرياح قد تركت أزمتها بيد السفن، فراحت تجري رخاء طوع إرادة السفن. وكانت الحياة طافحة بالخصب، مشعة بالأمل، وانطفأ الفنار فجأة، فبدأت الريح تزأر، وراح الموج ينعب، وأقام الغرق ولائمه. لم يكن الإعصار الضاري على الفنار من كل الجهات سببا وحيدا في اختفاء ضوئه، بل إن سكرة الغرور بالسلطة وزهوة الشباب الرعناء، وجهل قراءة الواقع، هذه كلها فتحت الأبواب للأعاصير، فاحتشد القراصنة، وانقضوا على الفريسة، كل يحمل من الأشلاء ما تستطيع أنيابه. في المكتبة العربية ركن واسع عنوانه (رثاء المدن) وهو إرث من البكاء على الأطلال، فرثيت الأندلس بكامل مدنها، ورثيت بغداد مرات عديدة، بسبب النكبات المتكررة، ورثيت دمشق. ولابد أن يسأل من يرى هذا الانهيار المتواصل عن السبب: وإذا سأل جاءه الجواب الواحد من كل الأفواه: إنه افتراق الأمة، وانعدام الهدف المشترك الواحد، وهذا داء قديم ودائم. في مقال سابق تمثلت بهذا البيت (وتفرقوا شيعا فكل مدينة / فيها أمير المؤمنين ومنبر) وقد كفاني ابن حزم عناء البحث عن اسم الشاعر حين قال: ( فضيحة لم يقع في الدهر مثلها، أربعة رجال في مسافة ثلاثة أيام، يسمى كل واحد منهم بأمير المؤمنين، ويخطب لهم في زمن واحد، أحدهم في إشبيلية والثاني في سبته والثالث في كذا والرابع في ملطة) هذا القول، بهذا الوضوح، قاله صاحب طوق الحمامة الذي قال فيه ابن العريف الأندلسي: (لسان ابن حزم وسيف الحجاج صنوان) نعم نحن نحتاج في هذه الأيام إلى لسان ابن حزم الذي يتميز بالرقة والغلظة معا ليعبر لنا عن أمة تحوي 22 دولة لا أربعا فقط ما هو فعلها في الحياة، وهل لها هدف مشترك؟ التاريخ القريب من كل ذاكرة يحدثنا عن أمم دمّرت، ولكنها نهضت وبنت نفسها وأصبحت من بناة الحضارة؛ لأنها دمرت مرة واحدة، أما نحن فقد توالى التدمير، وتكالب الغزاة واللصوص والخونة والمرتزقة، وكانت الإرادة، إرادة الفرد مكبلة، والإرادة العامة في شلل.