طلل معرفي!
كنت أزور مكتبة كنوز المعرفة بجدة، في فترات متباعدة وكنت أرتاد الطابق الثاني فيها لوجود أسماء المؤلفين الذين أحبهم في الأدب والبلاغة والنقد، لاسيما من المعاصرين، وقد حزنت حين علمت أنها أغلقت أو توشك، استسلاما للمد الإلكتروني الذي يبدو أنه توغل حتى وصل إلى مركز القراءة بعد أن كان طرفا. وما يحزنني الآن هو أن مكتبة التراث بمكة قد تحذو حذوها حين تعلم بالخبر، فأرجو ألا يخبرها أحد فإن كان ولابد فليتلطّف وليسقه مساق من يحاذر على رفيقه الصدمة، فهي مكتبتي الأثيرة في أيام خلت، وتمثّل لي طللا معرفيا إذ كنت من روادها، قبل أن تتسع بيني وبينها المسافة مكانا وزمانا حتى لم أعد أزورها إلا لماما أو في النادر الأقل. المهم أني هنا أستشعر وقفة الطلل على زمن مضى وأيام غابرة، فكم من العلماء والأدباء ينامون بين رفوف هذه المكتبات وكنت قد تعرفت عليهم من خلالها واتصلت بهم من طريقها، بدءا من الشيخ الأديب علي الطنطاوي، رحمه الله، وكان أول ما اقتنيت له كتابه الممتع صور وخواطر؛ فقد عرفته من خلاله أديبا رشيق العبارة غزير الإنتاج، فكان عتبتي الأولى إلى عالمه الأدبي والتربوي، ثم اقتنيت بعد ذلك سائر كتبه تباعا حتى بلغت إلى نهايتها مع الذكريات. وفي مكتبة التراث بمكة الطرف المقابل لكنوز المعرفة بجدة تعرفت على صاحبها الشيخ الجليل فكان يتركني وشأني أثناء تصفح الكتب حتى أفرغ منها دون أن يشترط علي الاقتناء، وكان يعرف زاويتي من المكتبة فيوصي أبناءه بي كما لو كنت عابر سبيل له حق زكاة العلم من هذه الكتب، إذ أقرأ ما أشاء إلى أن أقرر ما أبتاع من الكتب، وكان ذلك إيمانا منه بضرورة التذوّق قبل القراءة، والتصفح اليسير قبل الاقتناء، وهو الشرط الذي فقد معناه بعد تغليف الكتب بالنايلون الرأسمالي منعا لتعدد الخيارات وفرضا لمنطق السوق على منطق العلم والمعرفة. هل سيتحول الكتاب الورقي إلى طلل معرفي في ظل تزايد ووفرة الكتب الإلكترونية وهيمنة العالم الرقمي؟ أم أن المكتبات التجارية ستقاوم المد بتقنيات جديدة تحفظ وتحفظ للكتاب الورقي بمكانته ليبقى لإقامة معارض الكتب معناها الراسخ في ذاكرة الثقافة والعلم والمعرفة؟