
يُروى أن العرب، منذ أن أشرقت عليهم أنوار الترجمة في عصر الخليفة المأمون، وحتى يومنا الراهن، لم يترجموا إلا ما تترجمه دولة كإسبانيا في عام واحد! وأن ما تنقله أوطاننا من لغات العالم في سنة، لا يعدل خمس ما تترجمه دولة وادعة مثل اليونان وفق تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية 2003م مآل مؤلم، يكشف أي نافذة أوصدناها طوعًا، وأي عالم أغلقناه علينا بحجة الخوف من الآخر. الترجمة كانت، وما تزال، المعبر السحري الذي يعبره الفكر الإنساني من ضفة إلى ضفة. فمنذ أن اتسعت بغداد بدار حكمتها، وأسند الخليفة مهمة فتح العالم إلى المترجمين، شهدت الحضارة العربية ازدهارها الكبير، وكأن الترجمة كانت مفتاح الباب السري نحو النور. لكن ذلك النور خبا، وخلفه تراكمت ظلمات الانغلاق، يوم ظنّ البعض أن الآخر عدوّ لا رسول معرفة. وما علموا أن قبول الآخر هو الفرض الأول لمن أراد الترجمة، وأن الترجمة، كما قيل، خيانة مشروعة، وقبلة من وراء الزجاج: خيانة لأن النص لا يُنقل أبدًا كما هو في لغته الأولى، وقبلة لأن الترجمة فعل عشقٍ نبيل، رغم العوائق والمسافات. لولا الترجمة، لظل إدغار آلن بو شاعر “الغراب” في ظلال النسيان، بسبب بودلير الذي حمل قصائده إلى العالم بلغته الفرنسية الفاتنة. ولولا ترجمات صالح علماني، لما عرف القارئ العربي روعة أدب أمريكا اللاتينية، ولا كانت للرواية العربية هذه الطفرة من السرد المتجدد خلال العقود الماضية. وأكاد أجزم أن أغلب الروائيين العرب في ال 25 سنة الماضية تأثروا بترجمات علماني ولغته الفارهة. ونحن، كيف ننسى أن أول شعاع للرواية العالمية جاءنا عبر ترجمات رفيعة: “آلام فرتر” لغوته، حين صاغها أحمد حسن الزيات ببيانه الساحر عام 1961؟ أو “فاوست” حين ترجمها محمد عوض محمد في 1929؟ كيف لا نذكر “قصة الحضارة” لويل ديورانت، حين أفاض علينا محمد بدران وزكي نجيب محمود من أنهارها العذبة؟ أو قصائد “سافو”، أول شاعرة عرفها التاريخ، حين ترجمها عبدالغفار مكاوي؟ وفي هذا المقام، يحضر عبدالرحمن بدوي صاحب الزمان الوجودي، ونقف تقديرا للفيلسوف العربي الأول بحسب توصيف طه حسين له. أنجز أكثر من مئتي كتاب ونقل من اللغات القديمة كاليونانية والحديثة كالألمانية، وجوبه مشروعه من التكفيريين، رغم ترجمته للسيرة النبوية، وكتابه دفاعا عن محمد. كم من الأسماء العظيمة عبرت إلينا عبر الترجمة، ثم تاهت في غبار النسيان؟! في طفولتنا، كانت عبارة “تمت الترجمة بمعامل أنيس عبيد” عنوانًا لكل مساء تلفزيوني مدهش. كنا نشاهد أفلامًا أجنبية على التلفزيون السعودي أواخر السبعينيات، ونهمس في سرائرنا: كيف استطاعت هذا الرجل أن يقوم بتعريب لغة الآخر؟ وكان أنيس عبيد، ذلك الرائد الصامت، أحد الذين أدركوا أن الترجمة ليست فقط كلمات تُنقل، بل جسور تُبنى، وحكايات تُعاد ولادتها بلون آخر. وكما فعل أنيس عبيد على الشاشة، فعل رفاعة الطهطاوي حين بعثه محمد علي باشا إلى فرنسا، فأدرك الطهطاوي أن الانفتاح على حضارة الآخر لا يهدد الهوية، بل يثريها. فعاد ليؤسس مدرسة الألسن، حاملاً شمس الترجمة إلى أرض النيل. ولعلنا، أكثر من أي وقت مضى، بحاجة لأن نعيد تعلم الدرس الأول: أن من يخشى الآخر لا يستطيع أن يترجم له. وأن من يظن أن العالم مؤامرة ضده، سيبقى حبيس ذاته، لا يعبر ولا يعبر إليه أحد. الترجمة، ولمناسبة يومها العالمي الذي يصادف الثلاثين من سبتمبر في كل عام، ليست ترفًا ثقافيًا، إنها شرط حياة... نافذة مشرعة للإنسان على أخيه الإنسان، وجسر لا يبنيه إلا من عرف كيف يحب الآخر، ولو من وراء الزجاج. وفي زمن الرقمنة والذكاء الاصطناعي، تبقى الترجمة فعلًا إنسانيًا يتجاوز التقنية. إنها ليست مجرد نقل كلمات، بل جسر للتفاهم بين الثقافات، ورسالة حب لا تكتمل إلا حين تعبر القلوب اللغات، ولو من وراء الزجاج.