حياة الشيخ الطنطاوي في الرياض.

ذكر الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله في كتابه “ذكريات”، أنه وصل إلى الرياض في بداية عمله في المملكة في عام 1383 هجرية للتدريس في الكليات والمعاهد العلمية، التي صارت فيما بعد “جامعة الإمام محمد بن سعود”، وكانت تقع على شارع “الوزير” في عمارة إلى جانب البلدية. وكان الشيخ قد زار الرياض للمرّة الأولى في عام 1353 هجرية أثناء قدومه للحجّ، وكانت الرياض شبه قرية حولها سور له أبواب، وكان موضع شارع الوزير صحراء، وكانت “البطحاء” بطحاء حقيقةً، وكان بين الرياض و”منفوحة” فضاء مفتوح خالٍ من البنيان. ثم زار الرياض ثانية في عام 1373 هجرية بصُحبة وفد المؤتمر الإسلامي، وكانت الرياض قد اتّسعت قليلاً وخرجت من السور، وظهر شارع الوزير وإن كان البناء قليلاً، وأقيم فندق “زهرة الشرق”. ومن طريف ما يرويه الشيخ في بداية عمله، بأنه كان جالساً في مكتب مدير الكُليّتين “الشريعة واللّغة العربية” الشيخ “عبدالعزيز المسند” رحمه الله، وحدث أن الشيخ الطنطاوي عطش فقال المدير لرجلٍ كان جالساً على كرسيّ بجواره: “يا فلان، هات ماءً للشيخ”، فإذا هو فرّاش، وإذا الفرّاشون يجلسون مع المُديرين في مكاتبهم، كما لاحظ ذلك الشيخ في كلّ دائرةٍ كان يدخلها! وعطش الشيخ مرّةً أُخرى في مكتب المدير في أحد الأيام، فقال للقاعد على هذا الكرسيّ: “من فضلك هات لي كأس ماء”، فدُهش المدير وقال: “ألا تعرف الشيخ فُلاناً”؟ وإذا هو رجلٌ رفيع المنزلة عالي القدر! فصار الشيخ بعدها، لو مات من العطش لم يطلب ماءً، لأنه لا يعرف الفرّاش من الشيخ! وقد كان الشيخ أستاذاً زائراً، وكان يخلف بعض الأساتذة في ساعات غيابهم، ويُلقي على الطلبة بعض الكلمات والدروس، وكان مشهوراً بعلمه ولطفه بين الشباب ومحبوباً لديهم.. ويقول الشيخ: “أمّا الطُلاب، فأشهد، وأنا أُعلّم منذ عام 1345 هجرية، بأنهم من أكثر من رأيتُ من الطلّاب أدباً مع المُدرّسين، ورغبةً في الاستفادة منهم، وتكريماً للمُسنّين منهم”. ومن الطريف ما يرويه الأخ الأستاذ “حسن الدريعي” في كتابه عن سيرة والده الشيخ “محمد الدريعي” رحمه الله: “في ميادين الدعوة”، أن الشيخ الطنطاوي دعا الطلبة لحضور محاضرة سيُلقيها بعد عصر أحد أيام الخميس في الكليّة، وكان من بين الحضور الشيخ الدريعي، الذي كان طالباً في كليّة الشريعة آنذاك. فبدأ الطنطاوي محاضرته وكان مما قال: “إن المُحاضر كالمُغنّي”، ثم مضى يٌقرّر أوجه الشبه بينهما، ولم يرقْ هذا التشبيه للدريعي تنزيهاً منه للمُحاضر الذي يبذل العلم، ونُفوراً من تشبيهه بالمُغنّي الذي ينشر اللهو والعبث، وعقد العزم على مناقشة الطنطاوي في تلك المسألة. وفي صباح اليوم التالي، وبينما كان الطنطاوي يجلس في غرفة الأساتذة مع زملائه، إذا بالدريعي يدخل عليهم في حماس الشباب، ويقف على رأس الطنطاوي، ويقول بصوته الجهوري القويّ: “أيها الأساتذة، ما تقولون فيمن يقول أنّ المُحاضر كالمُغنّي”!؟ فما كان من الطنطاوي إلا أن هبّ من كُرسيّه واقفاً، وأخذ بيد الدريعي إلى خارج الغرفة، كأنما يُريد أن يٌسرّ إليه بأمر، فعاد الدريعي ليُكمل حديثه: “لقد طلبتُ رأي الأساتذة، أما رأيك فقد قُلتَه وسمعتُه في المحاضرة أمس”، فقال الطنطاوي: “إن كان غدٌ، وجلستَ في حلقتي الإذاعية فاسمعها، فإني ناقِضٌ قولي السابق”، واستجاب الدريعي لوعد الطنطاوي، وأُعجب بحكمته وأدبه الجمّ وسِعة حِلمه.. رحم الله الشيخين. ثم أنّ الشيخ الطنطاوي ثقلت عليه الوِحدة في الرياض، لأنه ترك زوجته وبناته في “دمشق” إشفاقاً عليهم من مشقّة الغربة، ولم يُكتب له أن يُخالط زملائه الأساتذة إذ لم تتجاوز صلته بهم علاقة العمل، ولم تكن مكتبته معه، ولم يجد مكاناً يذهب إليه أو يأنس به، أو صُحفاً يكتب مقالات بها، أو إذاعة يٌعدّ الأحاديث لها. ثم حدث للشيخ عارضٌ صحيّ استدعى نقله إلى المستشفى المركزي، وقرّر الأطباء عملية جراحية، فضلّ إجراءها في الشام، لا لأنه لم يكُن في الرياض أطبّاء أكفاء، بل لأن الشيخ أحبّ أن يكون بين أهله وأقرباءه. وفي نهاية العام الدراسي لم يرغب بتجديد عقده، عطفاً على مشاعر الغربة التي أحسّ بها، ولكنه عندما عاد إلى الشام استدعته السفارة السعودية وعرضت عليه العمل للتدريس في كليّة التربية في “مكّة المكرّمة”، فوافق وعاد إلى المملكة وأقام بها 35 عاماً حتى وفاته رحمه الله في عام 1420 هجرية.