كيف تغيّرنا القراءة؟..

الأدب كإعادة صياغة للذات.

في زوايا غرفة، بينما تتشبّث أصابع اليد بالكتاب، تحدث عملية صغيرة لا يراها أحد: إنّها لحظة التحوّل التي تمرّ بها النفس البشرية حين تقع على نص أدبي عميق. القراءة ليست مجرد عملية بصرية أو فكرية، بل هي رحلة وجودية نعبر من خلالها إلى عوالم أخرى، ونعود منها محمّلين بأسئلة جديدة، ورؤى مختلفة، وربما بذوات معادٍ صياغتها. إنّها عملية تعيد تشكيل هويتنا الداخلية. من خلال صفحات الكتب نغوص في عوالم مخفية. الأدب تحديدًا يعمل كمرآة تعكس واقعنا، وكأداة تعيد صياغته، محوّلًا الذات من كيان ثابت إلى كائن متطور. لطالما رأى الفلاسفة والأدباء القراءة كأداة فريدة لإعادة تشكيل الذات. يقول الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت: «القراءة الجيدة مثل حوار مع أرقى العقول في القرون الماضية». لقد اختصر ديكارت فكرة أنّ القارئ لا يستهلك نصًّا فقط، بل يدخل مع مؤلفه في حوار، يتحدّى أفكاره، يوافقها أحيانًا، ويعارضها أحيانًا أخرى، وفي نهاية المطاف يبني وعيًا جديدًا تكون نواته ذلك الحوار الخفي. لا يقتصر تأثير القراءة على زيادة المعرفة وتوسيع الآفاق فحسب، بل يتجاوزه إلى تغيير في البنية العميقة للشخصية. ماريو بارغاس يوسا، الحاصل على جائزة نوبل للآداب، يؤكد أنّ «القراءة تحول الحلم إلى حياة، والحياة إلى حلم». وهذا يشير إلى التمازج العجيب بين الواقع والمتخيّل الذي تخلفه الأدبيات العظيمة. فمن خلال العيش في أحذية الشخصيات المختلفة، والتعاطف مع مآسيها وأفراحها، نطوّر قدرتنا على فهم تعقيدات النفس البشرية، وبالتالي نفهم أنفسنا بشكل أعمق. وقد كتب الطاهر بن جلون في أحد نصوصه: «الكتاب يفتح الأعين على العالم، ويجعل القارئ يرى ما لم يكن يراه لولا ذلك الكتاب». هنا تحديدًا تكمن قوة الأدب: فهو لا يضيف معلومات إلى رصيدنا المعرفي فقط، بل يغيّر طريقة نظرنا إلى العالم من حولنا. إنّه يربّي النفس بشكل أو بآخر. قد ننظر بعد قراءة نص أدبي عميق ـ كرواية أو قصيدة ـ إلى علاقة إنسانية، أو ظاهرة اجتماعية، أو حتى إلى مشهد طبيعي بعين جديدة. ويرى ألبير كامو أنّ «الرواية هي المكان الذي تموت فيه الأكاذيب، وتولد فيه الحقائق». الأدب لا يقدّم إجابات جاهزة، بل يطرح أسئلة تدفع القارئ إلى مراجعة كل ما يوقن به، وإعادة النظر في أفكاره. وهذه العملية، وإن كانت مؤلمة في بعض الأحيان، إلا أنّها ضرورية لنمو الفكر الأخلاقي والروحي. وقد قال مارسيل بروست: «القراءة وسيلة لامتلاك حياة أخرى، لا لعيش حياة شخص آخر، بل لفهم حياتنا على نحو أعمق». وهذا فعلًا ما يحدث للقراء؛ فنحن لا نهرب من واقعنا بالقراءة، بل نعود إليه محمّلين بوعي أكثر نضجًا. الأدب تحديدًا له قدرة فريدة على اختراق أعماقنا. الفلسفة تنظّر، والعاطفة تغرقنا في ذواتنا، لكن الأدب يجمع الاثنين: هو مساحة اللقاء بين الفكر والوجدان، وهنا تكمن قوته في إعادة صياغة الذات. ففي عصر التدفق المعلوماتي السريع، حيث تُقدّم المعرفة في أغلفة مختصرة وسريعة الاستهلاك، تبقى القراءة المتأنّية للأدب العظيم مقاومة وجودية ضد السطحية. إنّها عملية استعارة للوعي، نعيش من خلالها حيوات متعددة في حياة واحدة، مما يثري تجربتنا الإنسانية ويجعلنا أكثر قدرة على مواجهة تعقيدات الحياة. لقد غيّرتني القراءة شخصيًا، أعادت تهذيب روحي وجعلتني أسمو فكريًا ووجدانيًا، حتى باتت نظرتي للحياة أوسع وأكثر عمقًا. وهنا أستحضر مقولة مارسيل بروست: «الاكتشاف الحقيقي لا يكون في إيجاد أراضٍ جديدة، بل في امتلاك عيون جديدة.» فالأدب لم يمنحني أجوبة بقدر ما منحني عيونًا أعمق لرؤية العالم. وفي الختام نقول: إنّ القراءة ليست مجرد هواية أو ترفيه، بل هي ممارسة وجودية تعيد تشكيل ذواتنا باستمرار. كل كتاب مهم ننهيه يترك فينا أثرًا، كالنّهار الذي يخلف ظلّه الطويل، لا يغادرنا أبدًا. وهنا يمكن القول إن الأدب هو الورشة الكبرى التي نصوغ فيها ذواتنا باستمرار؛ إنّه يدفعنا لأن نكون كائنات في حالة تشكّل دائم، لا نكتمل أبدًا، لكننا لا نتوقف عن السعي. وهنا تكمن أعظم هدية تمنحها لنا القراءة: أن تتركنا أكثر إنسانية، وأكثر قدرة على أن نحيا حياتنا بعمق وامتلاء. فلتكن قراءتنا دائمًا خطوة نحو ذوات أكثر رحابة، وحكمة، وإنسانية.