دكان «حنيشل» الطيني..

حيث بدأت الرياض تقرأ.

تُعدّ مدينة الرياض أكثر من مجرد عاصمة سياسية وإدارية للمملكة العربية السعودية؛ إذ تمثل مركزًا حضاريًا وثقافيًا عميق الجذور، اضطلع بدور محوري في تشكيل الهوية الوطنية وتطور المشهد الثقافي في المملكة. فهي المدينة التي تجمع بين عبق التاريخ ومعالم الحداثة، وتختزن في أزقتها وأسواقها القديمة ومبانيها الطينية ذاكرة حضارية ثرية تمتد لقرون، حيث تتقاطع عناصر الأصالة مع معطيات المعاصرة، وتتداخل فيها ملامح التراث مع مظاهر التطور العمراني. ومن واحة صغيرة على ضفاف وادي البطحاء، نهضت الرياض لتغدو إحدى أبرز العواصم العربية والإسلامية، بما تحمله من رمزية ثقافية ومعرفية تجاوزت حدودها الجغرافية، وكان للكتاب، بما يمثله من وعاء للمعرفة وأداة للتنوير ووسيلة للحوار والتغيير، دورٌ بارز في هذا التحول الثقافي المتسارع. كانت الرياض – ولا زالت - مدينة القراءة في وقت لم تكن فيه القراءة شائعة، ومدينة الكتاب قبل أن تعرف أسواق الكتب الحديثة، ولعلنا في هذا السياق ومع اقتراب موعد معرض الرياض الدولي للكتاب 2025، نحتاج إلى استدعاء القصص الأولى والبدايات البسيطة التي مهّدت لهذا الحضور الثقافي الهائل الذي نعيشه اليوم، لنروي واحدة من أبرز هذه القصص بل وأصدقها تعبيرًا عن علاقة المدينة بالمعرفة. بطل قصتنا شخص يدعى حنيشل بن عبد الله بن حنيشل، قصيمي من أهل بريدة، قدم للرياض بلا سابق تخطيط ولا رغبة، لكنها الأقدار.. فقد تعرض لمرض أوجعه، ولعائن اقعده اضطر لذلك على الاستقرار في الرياض ليورث لنا أيقونة ثقافية بين جدران الطين.. فما قصة حنيشل هذا..؟ خرج ابن حنيشل مرة إلى البر -كعادة الناس في ذلك الزمن – لجمع العلف لدوابه، لكنه عاد بحال لم تكن كحاله يوم خرج، عاد وجِعاً منهكاً بمرض غريب أقعده، ولأن الطب لم يكن متاحاً في بلدته اقترح عليه شقيقه عبدالرحمن أن يصحبه إلى الرياض للعلاج بصحبة ابنه عبدالعزيز، فسجلوا أسماءهم في المواصلات، وطلب منهم الانتظار حتى يكتمل عدد الركاب، وعندما حان الموعد جيء له بدابة حتى توصله إلى السيارة، وما إن تجاوز الدروازة الشرقية لبريدة حتى شعر بتحسن كبير وشُفي فجأة، لكن حين عاد إلى المدينة عاد له المرض مرة أخرى، فأيقن أنها عين، وقرّر أن يمكث في الرياض حيث عُولج في مستشفى الانجاوي، ولكن تسكن بين ضلوعه بقية مرض الربو . سكن مع شقيقه محمد في نهاية شارع الثميري، وبعد شفائه بدأ يلاحظ حركة الأسواق والتجارة، فلاحت له من بين جنباتها فرصة حياة جديدة، وجد في المناخ التجاري للرياض ما يشجّعه على الاستقرار، فقرر نقل عائلته عام 1367هـ وتنقل في مناطق متعددة مثل دخنة ومعكال والبطحاء، وبدأ تجارته ببيع الأقمشة قبل أن يتحول لاحقًا إلى بيع الكتب بحكم حبه للعلم ومعرفته بالكتب ومهارته في التجليد وإصلاح الكتب والمصاحف تحوّلت هوايته تدريجيًا إلى مهنة ذات رسالة، فكان كثير الاطلاع، وعلى دراية بطبعات الكتب ومؤلفيها، ويتابع احتياجات العلماء وطلبة العلم، لكن رأس المال كان عائقًا إلى أن زكّاه الشيخ عبدالعزيز المعارك لدى الشيخ عمر بن حسن آل الشيخ، فدعمه بمبلغ 1800 ريال ليفتح بها دكانًا خاصًا بالوراقة وبيع الكتب، وهكذا وُلد دكان حنيشل عام 1375هـ في الزاوية الغربية الشمالية من شارع دخنة بالقرب من قصر الحكم، وكان الدكان متوضعاً، مبنيٌ من الطين يعلوه الغبار وتسكنه الحشرات، لكنه كان ينبض بالحياة ويضجّ بعبق الكتب وروائح الورق القديم، ولم يحمل اسمًا حتى قبيل وفاته حين سُمّي أخيرًا مكتبة التسهيل. لم يكن دكان ابن حنيشل مجرد متجرف فحسب، بل كان ملتقى للعلماء وطلاب العلم، وكان من بين زواره الشيخ صالح بن محمد اللحيدان والشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ وغيرهم من الشخصيات العلمية الذين كانوا يترددون على هذا المكان بحثًا عن نوادر الكتب ومصادر المعرفة، وهذا ماشجعه على التوسع في جلب الكتب ليشبع نهم العلماء وطلبة العلم والمثقفين، فلم يكتفِ بجمع الكتب من داخل الرياض، بل سافر إلى بيروت ودمشق والقاهرة والكويت، يجوب الأسواق ويغشى دور النشر بحثًا عن الكتب النادرة والمخطوطات الفريدة، ويتواصل مع مطابع معروفة مثل الساقية ودار الكتاب العربي، وكان أحيانًا يطبع الكتب على نفقته الخاصة ويرسل الصناديق الخشبية المملوءة بالكتب عبر البحر من مصر أو عبر البر من الشام ويشحنها إلى مكتب صالح الجربوع بدمشق ومنه إلى الرياض. كانت مكتبته تضم عناوين في علوم الحديث والفقه والأدب والشعر والتاريخ والسير والمخطوطات، وكان يشتري الكتب المستعملة والمكتبات الموروثة ويعيد ترميمها وتجليدها، حتى صارت مكتبته معروفة ومقصودة من الباحثين والعلماء وطلاب العلم، وكان يزوّد مكتبات أخرى مثل مكتبة الرشد بالكتب النادرة التي تنقصها، فكان بذلك حلقة وصل ثقافية فعالة بين المدينة والعالم العربي ومساهمًا رئيسيًا في تنشيط سوق الكتاب العلمي في العاصمة. قضى حنيشل أربعة عشر عامًا يخدم العلم والقراء من دكانه البسيط عمراناً الثري مضموناً، حتى وافته المنية عام 1389هـ، مخلفاً كنوزاً من الكتب والمخطوطات النادرة.. وبرغم بساطة المكان إلا أن الأثر الذي خلّفه كان عظيمًا، فقد كان دكانه أيقونة الثقافة، ونقطة تحول في حركة الكتاب في الرياض، وزرع أول بذور السوق الثقافي فيها، وساهم في تأسيس علاقة مجتمعية حقيقية مع القراءة، ووثق الصلة بين الكتاب والناس، فكون علاقة لم تُبْنَ على وفرة الموارد أو دعم المؤسسات بل على شغف فردي صادق وحب للعلم وصدق في العطاء واليوم في الوقت الذي نشهد فيه اليوم تحولات ثقافية شاملة في المملكة ضمن رؤية السعودية 2030، تقف الرياض شاهدة على هذا التقدم الثقافي الكبير الذي ترعاه وزارة الثقافة بقيادة فاعلة ومؤثرة من خلال هيئاتها المتخصصة، وعلى رأسها هيئة الأدب والنشر والترجمة، التي أسهمت في إعادة تشكيل المشهد الثقافي الوطني وفق رؤية عصرية تدعم المبدعين وتحفز صناعة الكتاب وتنظم قطاع النشر وتمنحه بعدًا مؤسسيًا مستدامًا، وإن معرض الرياض الدولي للكتاب لم يعد مجرد مناسبة لشراء الكتب بل صار تظاهرة معرفية عالمية تجسد طموحات الرؤية وتستدعي الموروث وتفتح نوافذ الحاضر نحو المستقبل. فما نشهده اليوم من منصات عرض دولية وورش فكرية ولقاءات مع كبار المفكرين والناشرين من أنحاء العالم، ما هو إلا امتداد صادق لتلك اللحظة التي وقف فيها رجل بسيط أمام دكان طيني ليبيع كتبًا مستعملة بإيمان كبير برسالة العلم، لقد أنار دكان حنيشل شمعة لم تنطفئ، وكانت دكانه أول السطور في حكاية كتاب لا تزال تُكتب كل عام من جديد، في قلب العاصمة التي باتت لا تُعرف فقط كعاصمة سياسية، بل كعاصمة للثقافة والفكر والمعرفة.