إستراتيجية البقاء القديمة.

يحاول الإنسان أن يُحكم قبضته على ما يعتمل في داخله، فنحن نُتقن السيطرة على العالم الخارجي: نبني المدن، نروِّض الطبيعة، نُحرك الآلات؛ لكن أمام تلك الكائنات الخفية التي تسكن فينا، غالبًا ما نلجأ إلى أسلوب واحد هو الهرب، إستراتيجية البقاء القديمة، نهرب لأننا نُخدع بوهم السيطرة، نخاف من المشاعر التي تقتحمنا بلا إذن، تربك خرائط العقل وتخلخل توازننا، فنلجأ إلى أقنعة شتى، ونتعالى على الشعور بوصفه ضعفًا، نقمعه ليعود متنكرًا بصورة أخرى أقوى حدة وشراسة. إن الهرب هو الخيار الأسهل في اللحظة، لكنه الأثقل كلفة في المدى البعيد، إننا نحوّل المشاعر من شيءٍ عابر إلى مناخٍ دائم، والحقيقة الأعمق أن المشاعر ليست هويتنا الذاتية، نحن الوعي الذي يلاحظها، وحين نخلط بين أنا وما أشعر يصبح الهرب دفاعًا عن الذات، لا عن عاطفة مؤقتة. إن المسؤولية تجاه ذواتنا تكمن في (فن التعامل مع الذات) الذي يستقبل مشاعرنا .. والمطلوب أن نعطي الشعور مقعدًا في الداخل دون أن نسلمه مقوّد حياتنا. إننا نهرب وكأن الضعف عيب في إنسانيتنا؛ مع أنه نافذتنا إلى المعنى، فمن لا يحنّ لا ينتمي، ومن لا يحزن لا يتعلم، فالقوة الحقيقية في احتمال هذا الوحش الذي نجهل التعامل معه، وتحويله إلى حكمة، إن الزمن يشفي ما نسمح له بالمرور فقط. على تنوع المشاعر وتدرجها من اللطف إلى أعمق درجات الفرح ومن القسوة إلى الجرح الذي لا يندمل؛ تنقذنا اللغة لأنها تسمّي الشعور وتصنفه فتقلل من سطوته، وفي النهاية الهرب لا يُطفئ المعنى، بل يؤجّله، وما نهرب منه يظل ينتظرنا عند أول لحظة هدوء، وحين نتعلم الإصغاء إلى أصواتنا الداخلية، نكتشف أن ما كنا نخشاه لم يكن وحشًا يطاردنا، بل معلمًا صبورًا يمد يده إلينا، يطلب فقط أن نلتفت ونقرر ما إذا كان هذا الشعور حياةً أم عبورًا لا بدّ منه، فنسمح لمخاوفنا بقتله، أو لاعتقاداتنا من التملص منه، أو لشجاعتنا من استدراك الأوجه الجديدة فيه. وحين نعود إلى طبيعة الذوات نجدها مختلفة باختلاف النشأة، والأولويات، فالوقت الطبيعي لا يساوي الوقت في جبهة الحرب، وإن كل ما يزعزع عاطفتنا من منطقة الأمان إلى منطقة متذبذبة لا تحكمها سيطرتنا لن تتساوى مع طبيعتنا في حب الاستقرار وستصنع مواجهة حية بين المشاعر وربكة محارب متوجّس، سنستدعي حينها منهجيتنا في السيطرة والحماية بدايةً من الكبت إلى الكبرياء وتهميش أي إحساس يضعف صمودنا ويؤثر علينا.