الشاعر علي عكور :

أنا ضد التشوّه باسم الحداثة.

من جازان، حيث تحتشد الذاكرة بالشعر والشجن، وترتبط الحياة اليومية بصمت الطبيعة النابض. هناك.. في قرية العكرة حيث تتجسد الخضرة والسكون، أصواتا تعيد تشكيل العلاقة بين الإنسان وعالمه ولد علي عكور شاعرا تتجاور في نصوصه مرونة اللغة مع دهشة الرؤية، فتولد قصائد مكتنزة بالتأمل. تنوع غصون اشتغالاته الممتد بين الشعر والمسرح والقصة القصيرة جدًا، يُظهر حسًا فنيًا عاليًا، تنصهر فيه التجربة النفسية بالرؤية الشعرية في نصوص تترك لدى القارئ أثر الدهشة التي لا تُنسى. وعكور شاعر وكاتب حائز على درجة الماجستير في الإرشاد النفسي. فاز بجوائز مختلفة في مجال الكتابة الإبداعية والشعر، وصدر له: في القصة القصيرة جدا مجموعة قصصية بعنوان “سيرة الأشياء”، وثلاثة دواوين شعرية : “بريد لأشجار أيلول”، “كانتصار صغير للبرق والرعشة”، و “غيابك فردٌ من العائلة”. كما صدرت له مسرحية شعرية بعنوان: “حوارية الوردة والريح”. أحيا أمسيات شعرية داخل السعودية وخارجها، وقد حظيت أعماله ببعض الدراسات الأكاديمية داخل السعودية وفي عدد من الجامعات العربية. حاز في مسيرته على عدة جوائز أبرزها جائزة مراس عن نادي جدة الأدبي، وجائزة التأليف المسرحي فرع الشعر التقيناه في الحوار أدناه في محاولة لفتح نافذة على عوالمه المسكونة بالإبداع والتأمل: متى وكيف أوقد الشعر بقلبك فتائله، وهل كان له الأثر في اختيارك لدراسة اللغة العربية؟ الشعر في حالتي لم يكن حادثة طارئة ولا لحظة انبهار عابرة، بل كان أشبه بتراكم زمني بطيء، يشتد يومًا بعد يوم كجذر ينمو في الخفاء، حتى وجدت نفسي ذات مساء، أكتب بيتًا وأخشى أن أفسده إن أكملته. نشأ الشعر في داخلي كحاجة نفسية أولاً، كوسيلة لفهم العالم ومحاورته. في الطفولة، كنت أشعر أن هناك شيئًا خاملاً في اللغة اليومية، وكأنها لا تكفي لتسمية ما أشعر به. وعندما بدأت ألتقي بالكلمات التي تشبهني، تلك التي تضيء أكثر مما تشرح، تيقنت أن الشعر يسكنني منذ وقت طويل. اختياري لدراسة اللغة العربية لم يكن مخططا له. لقد جاء بشكل عَرَضي، لكنني وجدت في دراسة اللغة وفاءً لما منحني الشعر من هوية ومساحة تعبير. أردت أن أفهم بنية هذه اللغة التي تحتمل كل هذا الاتساع في التعبير، وأن أتعمق في تاريخها ونحوها وصرفها، لا لكي أكتب بشكل تقني، بل لكي أفتح قفل المعنى بأكثر من مفتاح. إلى أي حد يحتاج الشاعر إلى أن يكون قارئًا نَهِمًا؟ ومن هم الكُتّاب الذين تركوا فيك أثرًا لا يُمحى؟ الشاعر الذي لا يقرأ يُشبه عود الثقاب الذي يشتعل مرة واحدة ثم يُطفئه الهواء. القراءة تنقّي القصيدة من تسرّب الغرور إليها. وهي بالنسبة لي ليست رفاهية ولا تحصيلًا معرفيًا فقط، بل هي استمرار لحوار داخلي لا ينتهي. كل كتاب أقرأه هو مرآة لجزء منّي، ونافذة أطل منها على العالم، ولكنها أيضًا طريقة لاختبار صوتي الخاص: كيف أبدو وأنا أجاور هؤلاء الكبار؟ لقد تأثرت بعدد كبير من الكتّاب والشعراء، بعضهم تركوا فيّ وشمًا لا يُمحى: السياب أولًا، بوجعه الوجودي وحرارته العاطفية، ثم محمود درويش الذي فهم كيف يصهر التجربة الذاتية في المأساة الجماعية دون أن يفقد خصوصيته. كما أن سعدي يوسف منحني الثقة في أن الغنائية لا تتناقض مع العمق، وأن الشعر ليس ضد الفلسفة بل وجهها الآخر. أدبيًا، وجدت في كافكا مرآةً لقلقي الوجودي، وفي الطيب صالح درسًا في الالتزام، وفي بسّام حجّار صوتا هامسا يطرق على أبواب العالم بضجيجٍ أقلّ مما يفعلُ المطر. هل تتفق معي إن أبصرت أثر دراستك للإرشاد النفسي على لغتك الشعرية واشتغالك على المعنى الداخلي للنص؟ نعم، بل أراه أثرًا حاسمًا لا يمكن إنكاره. دراستي للإرشاد النفسي علّمتني كيف أصغي إلى ما لا يُقال، كيف أفتّش عن الجملة التي لا تُنطق لكنها تؤثر. جعلتني أستشعر اللغة لا كأداة تزيينية، بل ككائن له نفس ووجدان. أثناء الكتابة، أستدعي هذا الوعي النفسي العميق بالتجربة الإنسانية، أتحرّى طبقات الشعور، التناقضات الصغيرة، والارتباكات التي تعيش في داخلنا بصمت. أصبحت القصيدة عندي ليست فقط صورة فنية، بل بُعدًا علاجيًا أحيانًا، مواجهة جمالية مع مناطق مظلمة في الذات. إنني لا أبحث عن التأثير الجمالي فقط، بل أبحث عن الحقيقة النفسية خلف الصورة، لذلك تجد في لغتي تقاطعات واضحة بين القول والتأمل. هل ترى أن الشكل اليوم ما زال يحدد هوية القصيدة؟ الشكل جزء من الجمال، لكنه ليس هوية القصيدة. نحن اليوم نعيش لحظة شعرية حرّة، لا تعترف بالحدود الصارمة بين العمودي والتفعيلة والنثر. لقد تحررت القصيدة من قيود الشكل لتدخل في فضاء المعنى، وبهذا تحررت من الزمن أيضًا. بالنسبة لي، القصيدة التي لا تُدهشك من الداخل، ولو كُتبت في أجمل إيقاع، تظل ناقصة. ما يحدد هوية القصيدة اليوم هو مقدار الصدق الكامن فيها، عمق التجربة، وقوة اللغة في محاورة القارئ. هناك قصائد نثر أشد شعرية من كثير من الشعر الموزون، وهناك نصوص موزونة لا تتجاوز كونها تمارين لغوية. الشعر هو ما يَتَنَفّس، لا ما يُوزن فقط. هل تخطط لصنع الدهشة منذ أول السطر أم أن حالة النص من تقودك إليها؟ الدهشة الحقيقية لا تُفتعل، تمامًا كالحب. لا أجلس لأكتب “قفلة مدهشة”، بل أكتب وأنا مأخوذ بحالة شعورية ما، وعندما تُكمل القصيدة دورتها العاطفية والفكرية، تأتي القفلة كخاتمة تنمو طبيعيًا. لكنّني أدرب نفسي على الإصغاء. حين تكتب، يجب أن تصغي للنص كما تصغي لطفل يقول لك شيئًا مهماً. هو من يقرر متى ينتهي، وأين يفتح فمه للدهشة. أحيانًا تُفلت مني ومضات لأنني استعجلت القفلة، وأحيانًا تُفاجئني جملة واحدة تلمّ كل ما سبقها من هواجس. ما الذي تلجأ إليه حين يغيب عنك الإلهام؟ ألجأ إلى الحياة. أترك القصيدة جانبًا وأذهب لأسمع الموسيقى، أو أتمشّى في الشارع، أو أستمع إلى حديث لا يعنيني في المقهى. أؤمن أن الكتابة ليست في الجلوس فقط، بل في الانتباه. أستعيد الإلهام عندما أسمح له بأن يبتعد. وأحيانًا أعود إلى قراءاتي الأولى، أو أقرأ نصوصًا كتبتها وأنا في بداياتي، أضحك من أخطائي، وأحن إلى تلك البراءة. كل ذلك يعيدني إلى مكان الكتابة، لا كمهنة، بل كمصير. تتسلل الطبيعة إلى عناوينك تسلل الذكريات إلى القلب، فما سر هذا التماهي؟ لأن الطبيعة هي اللغة الأولى. تربيت في بيئة ريفية، محاطة بالخضرة والسكون والعصافير، وكانت الحقول بمثابة كتاب مفتوح لي. في الطبيعة، كل شيء يرمز إلى شيء آخر: الغيم، الظل، الريح، النبتة التي تميل ثم تستقيم. أنا لا أستخدم الطبيعة كخلفية جمالية فقط، بل كوسيط تعبيري. الطبيعة تساعدني على قول ما لا يُقال. وفي أحيان كثيرة، أكتب لأستعيد ذكرى عبر مشهد طبيعي، كأنني أحاول الإمساك بطيف عزيز مرَّ من تحت شجرة ولم يعد. حين تكتب نصًا مسرحيًا، هل تكتب للقارئ أم للمشاهد؟ أكتب للمُشاهِد الحاضر في ذهني، لكنني لا أنسى القارئ الذي سيأتي لاحقًا ليقرأ النص كأدب مكتوب. المسرح عندي لا ينفصل عن الشعر، لذلك أحرص أن تكون اللغة متماسكة، تُغري القارئ بأن يتخيّل، وتُغري الممثل بأن يتجسّد. ربما يكون التحدي الأكبر في المسرح هو هذه الموازنة بين الحضور اللحظي على الخشبة وبين عمق النص في الورقة. لذلك، حين أكتب، أطرح دائمًا هذا السؤال: هل سيبقى هذا النص حيًّا بعد أن تُطفأ الأنوار؟ ما هو تقييمك لدور المسرح في الوطن العربي؟ المسرح العربي لا يزال يحبو في كثير من البلدان، لأنه ببساطة لا يحظى بالبيئة الحاضنة. لا يمكن أن ينهض المسرح من دون دعم مؤسسي، ومن دون تربية ذوقية تبدأ من التعليم. لكن رغم التحديات، أعتقد أن المسرح في الوطن العربي لديه طاقة كامنة هائلة، تكمن في روح الحكي التي نمتلكها كمجتمعات. فقط نحتاج إلى حرية أكبر تكسر الحواجز بين المسرح والنّاس. المسرح هو المكان الذي تُدار فيه أسئلتنا الكبرى بلا تورية. في زمن تتغير فيه مفاهيم الإبداع والجمال بسرعة، هل تؤرقك المواكبة؟ يؤرقني فقط أن أفقد صوتي الخاص. لست ضد التحديث، لكنني ضد التشوّه باسم الحداثة. كل فنان يجب أن يسأل نفسه باستمرار: هل أغيّر لأنني أبحث عن التطور، أم لأنني أخشى أن أُنسى؟ أنا أكتب ببطء، وأتابع العالم، لكنني لا ألهث وراءه. الجمال الحقيقي لا يبلى، حتى وإن تغيّر ذوق السوق. المواكبة مهمة، نعم، لكنها لا يجب أن تكون على حساب الأصالة. ماذا تعني لك الجوائز الأدبية؟ وهل تراها مؤشراً على جودة العمل؟ الجوائز الأدبية قد تكون إشارات مهمة على الطريق، وقد تفتح أبوابًا مغلقة، لكنّها ليست المعيار النهائي. أعرف نصوصًا عظيمة لم تُكرم، وأعمالاً متوسطة حصدت الجوائز. بالنسبة لي، الجائزة ليست حكمًا قاطعًا، بل فرصة للعبور إلى قرّاء جدد. أنا ممتن لأي تكريم، لكنه لا يغيّر شيئًا في طريقة كتابتي. أكتب لأنني لا أستطيع إلا أن أكتب. تنوعت اشتغالاتك الإبداعية بين عدة أجناس أدبية، فأيها أعمق تجذرا في دواخلك؟ الشعر هو الجذر. كل الأجناس الأخرى التي كتبتُ فيها—المسرح، القصة، المقال—هي فروع خرجت من هذا الجذر. الشعر ليس نوعًا أدبيًا بالنسبة لي، بل طريقة تفكير، وفلسفة في النظر إلى العالم. حتى في المسرح، أكتب بلغة شعرية؛ حتى في النثر، أبحث عن الإيقاع الداخلي. الشعر هو اللسان الأول الذي تحدثتُ به حين أردت أن أقول ما أظنه مهما. ماذا بعد اعتبارك “ الغياب فردًا من العائلة”؟ لديّ مشاريع إبداعية كثيرة. لدي ديوان مخطوط وهو شبه مكتمل، وقد يرى النور بعد أشهر. إضافةً إلى أنني بصدد البدء في كتابة عمل مسرحي جديد.