فن النسيج ..

تراث ثقافي يزين هوية اليوم الوطني البصرية.

تعد الهويات البصرية للفعاليات الوطنية والدولية منصة إستراتيجية لإدارة وتوظيف الإرث الثقافي، كونها أدوات تواصل تهدف إلى تقديم سرد بصري متكامل عن قيم الأمة وتطلعاتها. وعليه فإن توظيف الفنون التقليدية في تلك الهويات يمثل ممارسة حضارية تظهر وعي الأمم بأهمية تراثها الثقافي، فالحضارة هي مجموعة من القيم التي تشكل جوهر أي أمة، وعندما يتم دمجها في الهوية البصرية، فإنها تمنح الهوية عمقاُ ثقافياُ وفنياً وأصالة تتجاوز بها الشكل الجمالي لتصبح حاملة لمعنى ورسالة تختزل بها تاريخ أمة بأكملها. وفي هذا السياق يبرز فن النسيج التقليدي في شعار اليوم الوطني السعودي الخامس والتسعين كنموذج رائد لكيفية إدارة إرث ثقافي عميق وتحويله إلى عنصر محوري في بناء الهوية البصرية لشعار اليوم الوطني السعودي 95 في لوحة فنية فريدة تترجم هذه الفلسفة, لتعكس جمال تراثنا وعظمته, و تظهر التوجه الاستراتيجي للمملكة العربية السعودية نحو ربط إنجازاتها التنموية بجذورها الثقافية , وتؤكد على أهمية التراث كعنصر أساسي ومحوري في مسيرة التنمية والتقدم , كما تخبر العالم عن قيمنا الراسخة كالكرم والضيافة , وأن الهوية السعودية هي مزيج فريد من التراث الغني والتقدم العصري. ومن جانب آخر فمن خلال دمج نقوش وألوان فن النسيج في تصاميم الشعار يتم بناء رابط بصري قوي بين الأجيال. إن اختيار فن النسيج التقليدي ليكون محور الهوية البصرية لليوم الوطني السعودي الخامس والتسعين، هو إعلان ثقافي يتزامن تماماً مع مبادرة وزارة الثقافة بتسمية عام 2025 بعام الحرف اليدوية الهادفة إلى تسليط الضوء على الحرف اليدوية كجزء أساسي من التراث الثقافي الغني بالمملكة، هذا التناغم بين المناسبة الوطنية والمبادرة الثقافية يقدم رسالة مفادها أن هويتنا الوطنية لا تصاغ فقط من انجازاتنا الحديثة، بل تنسج بعناية من خيوط تاريخنا وتراثنا الأصيل. لذا فإن هذا التوظيف المدروس يجعل من الهوية البصرية أداة تعليمية وتعبيرية تعمّق الشعور بالفخر والاعتزاز الوطني، مما يضفي على الاحتفال باليوم الوطني بعداً أعمق، حيث يربط بين اليوم الوطني السعودي ورمز من رموز الأصالة السعودية، ألا وهو فن النسيج الذي يمثل إرثاً ثقافياُ وهوية وطنية يمتد تاريخه لآلاف السنين. يعود تاريخ وجود حرفة النسيج في المملكة العربية السعودية فيما هو معروف حتى الآن إلى العصر الحجري الحديث وذلك بناءً على الآثار التي تم العثور عليها في موقع حضارة المقر الذي يرجع في إطاره الزمني إلى 7000 قبل الميلاد أي قبل 9000 عام من الوقت الحاضر, حيث عثر في الموقع على قطع حجرية كانت تستخدم في صناعة الغزل والنسيج كالمكاشط التي كانت تستخدم في استخلاص الشعر والصوف من الدواب , والثقالات التي كانت تقوم بدور النول الذي يشد عليه الخيوط لإتمام الغزل والنسيج, فضلاً عن العديد من القطع الحجرية التي زينت بزخارف على هيئة حبال أو شرائط منسوجة من الصوف, مما يشير بما لا يجعل مجال للشك أن صناعة النسيج كانت من الصناعات الرئيسية التي انتشرت على نطاق واسع في الموقع الدال على ذلك الكم الكبير من الأدوات الحجرية التي كشف عنها ذات العلاقة. لذا تعتبر حرفة حياكة النسيج من أهم الحرف اليدوية التراثية في المملكة العربية السعودية لأهميتها الثقافية والتاريخية .حيث تحتل موقعاً مهماُ في التراث الوطني كونها تعكس الهوية التاريخية للمجتمع عبر العصور فهي تشتمل مجموعة من الصناعات منها : حياكة السدو والملابس و البشوت ونسج الحصير وغزل شباك الصيد , كما يلعب تعدد وتنوع المواد الخام والأدوات المستخدمة وأساليب العمل دوراُ كبيراً في تنوع حرف النسيج , وعادة ما ينظر إلى هذه الحرفة على أنها ذات قيمة حضارية مهمة حيث تعمل على نقل العادات والتقاليد والسلوكيات المجتمعية عبر الأجيال وتظهر الطبيعة التي عاشها السكان قديماً. وتتجاوز أهمية حرفة النسيج الجانب الثقافي لتشمل أبعاداُ اقتصادية واجتماعية وسياحية , فمن الناحية الاقتصادية توفر فرص عمل للعديد من الأسر المنتجة , وتساهم في زيادة دخل الفرد, مما يدعم التنمية المحلية , ومن الناحية الاجتماعية تعزز هذه الحرف النسيجية الاستقرار الاجتماعي من خلال توفير فرص عمل لجميع الفئات وتعكس تلاحم المجتمع وترابطه ويقلل من الهجرة الداخلية, أما سياحياً فتعد منتجات النسيج اليدوي عامل جذب سياحي مهم , يفضل السياح اقتناؤها كهدايا وتذكارات مما يعزز السياحة الثقافية ويساهم في التعريف بالتراث الوطني وانطلاقاً من ذلك كله فقد أولت رؤية المملكة 2030 اهتمامًا كبيرًا للحرف اليدوية بهدف حمايتها من الاندثار ودعم الاقتصاد المحلي وتنوع الاقتصاد وتقدير الموارد البشرية المحلية، وذلك لما تمتلكه الحرف التقليدية وفن النسيج التقليدي تحديداً من أهمية ثقافية واقتصادية متنامية ضمن برامج التنمية الاقتصادية المحلية باعتبارها رافدًا مهمًا للاقتصاد الوطني. مما يعكس فهماً عميقاً بأن الحرف اليدوية تمثل مكون أساسي من مكونات الهوية الوطنية التي تعزز التلاحم الاجتماعي وتدفع عجلة التقدم. ولقد ترجمت الجهود الحكومية هذا الاهتمام بإطلاق العديد من الهيئات والبرامج التعليمية والأكاديمية والمبادرات التي تعمل على حفظ هذا الموروث وتعزيزه محلياً وعالمياً ، من خلال تنمية المواهب والقدرات الوطنية الشغوفة، وتعزز ريادة الأعمال وتحويله من مجرد هواية إلى مصدر دخل مستدام، تفتح أبوابًا جديدة للفرص الاقتصادية وتدعم السياحة الثقافية وتنقل المعرفة للأجيال الجديدة. كما أن لهذا الفن أبعادًا عالمية تجاوزت حدود الوطن، فكان إدراج فن «السدو» في قائمة اليونسكو للتراث الثقافي غير المادي عام 2020 اعترافًا دوليًا بقيمته التاريخية والثقافية، ومنصةً عالميةً للتعريف به والحفاظ عليه كجزء من التراث الانساني. مما يعزز مكانة المملكة كدولة غنية بتراثها. وقد تجلى هذا الحضور العالمي بشكل أكبر في قمة مجموعة العشرين التي استضافتها المملكة عام 2020، حيث تم توظيفه في تصميم الشعار الرسمي للقمة في خطوة مدروسة ضمن استراتيجية سعودية لتعزيز حضورها الثقافي على الساحة الدولية، مما رسخ مكانة هذا الفن كرمز بصري يمثل كرم الضيافة والأصالة السعودية أمام قادة العالم، ويرسل رسالة واضحة أن المملكة قادرة على مواكبة المستقبل دون أن تتخلى عن قيمها وأصولها. إن هذا التناغم بين تراث الماضي ورؤية المستقبل يجسد قصة أمة تفخر بأصولها وتتطلع إلى مستقبل مشرق، وتؤمن بأن العز الحقيقي يكمن في أصالة طباعها وقيمها المتجذرة، وأن الحرف اليدوية، مثل حرفة النسيج، هي قصة وطن، وهوية شعب، وروح متجددة تتوارثها الأجيال. * جامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل