
منذ أقدم الأزمنة، ارتبطت الشمعة بالإنسان كرمز خالد للنور والهداية، فهي ليست مجرد أداة إضاءة بدائية تحدّت ظلام الليل، بل استعارة بليغة تختزن معنى أعمق لمسيرة البشرية في بحثها عن الحقيقة والمعرفة. فكما تذيب الشمعة جسدها في صمت لتمنح المكان نورًا، يذيب العلماء أعمارهم في سبيل إنارة الدروب وتبديد ظلام الجهل. إن الشمعة بهذا المعنى ليست جمادًا عابرًا، بل معلم رمزي يضع أمامنا فلسفة كاملة عن العلم: بذلٌ، وتضحية، وصبر، وتواضع. حين نتأمل في وهج الشمعة، نكتشف أنها تحمل في ذاتها درسًا علميًا بحتًا، فهي نتيجة تفاعل كيميائي معقد يحوّل الشمع إلى ضوء وحرارة، لكنها أيضًا درس معنوي عميق، إذ تمثل صورة الإنسان العالِم الذي يستهلك ذاته لينير حياة الآخرين. فهي تواجه الرياح لتبقى مضيئة، والعالم يواجه العقبات والصعوبات والتحديات في سبيل أن يظل العلم حاضرًا، نابضًا، ومنيرًا. وكما أن الشمعة تذوب ببطء حتى تنطفئ، يذوب العالِم في رحلة عمره منكبًا على البحث والاكتشاف، تاركًا بعد رحيله نورًا يمتد أثره للأجيال القادمة. ولعل أبلغ دروس الشمعة أنها تعلمنا قيمة المشاركة في نشر النور. فعندما نشعل شمعة من أخرى، لا ينقص من الأولى شيء، بل يتضاعف الضوء في المكان. وهكذا هو العلم، كلما نشرناه وشاركناه مع الآخرين، ازداد وهجًا، وتوسع أثره، وتعاظم نفعه. فالمعلم حين يفيض بعلمه لا يخسر شيئًا، بل تزداد مكانته، ويُضاعف أثره، وتتحول المعرفة إلى ميراث إنساني مشترك لا يحتكره أحد. كما أن الشمعة تذكرنا بدرس التواضع. فكلما أضاءت، مالت وانحنت، كأنها تقول للعالِم: ازدد علمًا وازدد تواضعًا. إن انحناءها ليس ضعفًا، بل تجسيدًا لجوهر الحكمة، فالمعرفة الحقيقية لا تقترن بالغرور، بل بالوعي العميق بضآلة ما ندركه أمام اتساع ما نجهله. ولذا فإن العالم الحق هو الأكثر تواضعًا، لأنه كلما اتسعت معارفه، ازداد إدراكًا بعظمة الكون وضآلة ما وصل إليه الإنسان أمام آفاقه المترامية. وفي زمننا الحديث، ومع وفرة الكهرباء ووسائل الإضاءة الحديثة، لم تفقد الشمعة رمزيتها، بل ازدادت حضورًا بوصفها أيقونة تلخص فكرة النور الداخلي لا الخارجي فقط. فهي تذكّرنا بضرورة أن نبقي جذوة العلم متقدة، وأن نعتبر المعرفة مصدرًا للهداية والإلهام، لا مجرد تكديس للمعلومات. إن الشمعة هنا رمز للعقل المستنير الذي يقاوم الانطفاء، ويؤمن بأن رسالته ليست أن يضيء لذاته، بل أن يهدي البشرية في مسيرتها نحو مستقبل أفضل. والشمعة أيضًا تعلمنا أن العلم لا قيمة له إذا لم يكن نافعًا. فشمعة لا تضئ لا معنى لوجودها، وكذلك العلم إن ظل حبيسًا في الكتب والمختبرات، دون أن يُسخَّر لخدمة الناس وتحسين حياتهم. فالعلم النافع هو الذي يتحول إلى طاقة ترفع مستوى الإنسان، وتبني حضارة، وتمنح المجتمعات القدرة على التقدم. وهنا تلتقي رمزية الشمعة برسالة العلم؛ كلاهما عطاء صامت، وكلاهما عمل متواصل لا ينتظر جزاءً مباشرًا، بل يؤمن بأن أثره سيبقى ممتدًا في حياة الآخرين. إن العلاقة بين العلم والشمعة المضيئة تفتح أمامنا أفقًا فلسفيًا عميقًا: فالعلم نور يبدد ظلام الجهل، والباحث الصادق شمعة تحترق في صمت ليبقى للأمة وهج منير. إنها صورة بليغة لطبيعة العلم ورسالة العلماء، حيث لا يكون العلم زينة للمعرفة، بل وسيلة للهداية والإصلاح وخدمة الإنسان. وكما أن الشمعة البسيطة كانت على مر العصور وسيلة للإضاءة، فإن العلم يظل على الدوام الوسيلة الأسمى لإضاءة الطريق نحو الحرية، والوعي، والكرامة الإنسانية. فلنحرص جميعًا أن نكون كالشموع المضيئة في حياتنا، كلٌّ في مجاله وميدانه، نمنح ونبذل، نعلّم ونشارك، نضيء ولا نطفئ، لنصنع من العلم جسورًا للنور تربط حاضرنا بمستقبل أكثر إشراقًا * كبير الباحثين بمدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنيه.