من «خرفينات» جدتي.

جدتي - غفر الله لها - كانت أمية فوق العادة ، وبفضل هذه الأمية المطلقة أعتقد - جازما - أنها لم تعرف شيئا مما جاء في الأدب على ألسنة الحيوانات ، لم تعرف شيئا عن “ شهريار “ وزوجته “ شهر زاد “ ولم تعرف شيئا عن “ بيدبا “ الفيلسوف ، ولم تسمع عن “ ألف ليلة وليلة “ ، ولم تسمع - أيضا - عن “ عبالله بن المقفع “ وما أداره وكتبه على ألسنة الحيوانات ، ولكني - مع هذا - كنت أعتبر أميتها “ أمية مثقفة “ رغم جهلي بمصادر ثقافتها الحكواتية . كانت علاقتي بجدتي علاقة غير عادية ، وكان حبها لي - رحمها الله - حبا غير عادي .. شقاواتي الطفولية كانت تتجاوز المألوف ، ولكنها كانت تمتص تلك الشقاوات بصبر حكيم ، وحنان يغفر لي “ دلعي “ الذي ترعرع في دفء أحضانها وإفراطها في حنوها علي . في بيتنا المتواضع الذي تستقطب فتحات جدرانه الحجرية نسيمات الضحى من كل الجهات ، وعلى نغمات صحونه “ التنكية “ المدلاة على صدر جداره العاري - من أي طلاء - وتحت جذوع سقفه “ المغشى ( 1 ) بسعف النخل تأخذني في ساعات الظهيرة ، أو مايعبر عنه أبناء قريتي ب “ قامة العود “ إلى البئر القريبة من دارنا المظللة بجدائل سعف قامات النخيل السامقة ، وبدلوها المحبوك رشاؤه من السعف ، كانت ترش رأسي وملابسي المثخنة بغبار شقاواتي ، وتشفق على شهقاتي بفعل برودة الماء رغم حرارة الصيف . عندما تعود بي إلى البيت تنزع أسمالي المبللة ، وتنشف جسمي بما تقع عليه يداها من الخرق البالية ، وبعد أن تطبع على خدي قبلتي حنان ، تودعني حضن ارجوحتي ، ومع حركة رجليها المدلاتين على الأرجوحة كانت تستجمع كل اشواقها وحنينها إلى غائبيها في طيات المجهول ، ثم تطلق عقيرة صوتها المشحون بالشجن والتأوهات ، وتفرغ ذلك في عيني المغمضتين استرخاء تحت تأثير شجى صوتها الرخيم . ذات ليلة ، وقد استعصى على عيني النوم ، وتعبت رجلاها من هز أرجوحتي قالت لي بأسلوبها العجائزي : أقلك بذيك الواحدة : في قديم الزمان ، وسالف العصر والأوان كانت مجموعة من الحيوانات - من بينها الأسد - تعيش في غابة كثيفة الأشجار والثمار في بحبوحة من العيش ، إلا أن هذه الغابة في ذات سنة أصيبت بموجة من الجفاف والقحط ، فيبست أوراقها ، وتساقطت ثمارها وانعكس ذلك على هياكل عظام حيواناتها ، لكن حالة غريبة كانت تبدو على واحد من جمال تلك الغابة ، إذ أنه لم تتأثر حالته بحالة البؤس التي كانت تعيشها بقية الحيوانات . كان سنامه يزداد ضخامة ، ووبر جلده يزداد لمعانا ، ومشيته المختالة تنبئ بأن في حياته سرا غريبا تجهله وحوش تلك الغابة التي صوح الجفاف بخضرتها ، وجار البؤس والشقاء على بذخ حياتها الرغدة المطمئنة. الحمار - رغم غبائه المعروف - تنبه لهذه الظاهرة ، وفي جلسة حميمية بينه وبين الجمل ، شكا كل واحد منهما للآخر همومه ومعاناته وجور الانسان عليه ، وقسوة تعامله معه ، فكانت فرصة ثمينة للحمار أن يبوح بما في نفسه للجمل ، ويسأله عن سر نعمته وبحبوحته التي يعيشها ، ورغم إنكار الجمل لأي سر يخبئه إلا أن الحمار أصر في إلحاح شديد بأنه غير مقتنع بنكرانه . لانت عواطف الجمل ، ورق قلبه وهو يرى تجاويف عظام صديقه الحمار ، فقال له : لابأس ياصديقي العزيز ، سأقول لك السر ، لكنكم أنتم معشر الحمير تبطركم النعمة ، وأخشى إن قلت لك الحقيقة أندم . أقسم الحمار أيمانا غليظة بأن يكون مستودعا أمينا ، وعميقا للسر ، وأقنع الجمل بأنه من غير المعقول أن يتنكر للجميل ، وأن يقابل المعروف بالإساءة . اقتنع الجمل بكلام الحمار وقال له : موعدنا غدا . تحايل الجمل - كما يفعل كل يوم - وسلك طريقه إلى واحته الخضراء التي تجهلها بقية الحيوانات ، ومشى الحمار خلفه لتفاجئه الدهشة .. أشجار وارفة ، وثمار يانعة ، وحشائش كثيفة ، وينابيع ماء جارية ، فأطلق لشهيته العنان ليعوض مافاته من أيام الحرمان . لم تمض أيام قليلة حتى بدأت عظامه البارزة تتوارى ، وشعيرات جسده تلمع وذيله يتحرك يمنة ويسرة . أحس الجمل أن صديقه الحمار يكتم في داخله شيئا لكنه لم يعر ذلك أية أهمية . في ذات يوم تجاوزت الأمور حدها ، وشعر الجمل أن صديقه غير طبيعي التصرفات .. يجري هنا .. ويركض هناك .. يمرغ جسده مرة .. ويلامس الأرض بشفتيه مرة اخرى .. وأخيرا نفذ صبره ، وقال للجمل : لاتلمني ، ولا تؤاخذني ياصديقي ، أريد أن أنهق .. لازم أنهق . قال الجمل : هذا ماكنت أخشاه ، وحاول أن يقنع الحمار أن لايفعلها ، لكن الحمار أصر على رايه ، فما كان من الجمل إلا أن يطلب منه فرصة يتمكن فيها من البحث عن مخبأ يلجأ إليه .. بعدها دوى صوت الحمار في الواحة ، وسمعت وحوش الغابة نهيقه.. ! _______ ١- المغشى : المسقوف