كرة القدم .. لغة الشعر الأخرى.

كرة القدم ليست مجرّد لعبة تتقاطع فيها مهارة اللعب مع هتاف الجماهير، فضاء رمزي مفتوح على أسئلة الهوية والحرية، والشغف والفقد، والفن والاقتصاد. فكيف تتحوّل حركة الجسد إلى قصيدة؟ وكيف يصبح الهدف استعارة عن انتماءٍ ضائع أو أملٍ مُستعاد؟ وهل تملك اللعبة، في بساطتها الظاهرة، طاقةً تختزل تعقيدات الوجود الإنساني وتقلباته؟ هذا ما نحاول الوقوف عليه ونحن نقرأ بعض النصوص الشعرية التي شغفتها اللعبة حبّاً، حين منحتها أبعادًا تتجاوز حدود المستطيل الأخضر لتدخلها في مساحات الفن والذاكرة والفلسفة، تاركةً لنا مساحتنا الخاصة للتأمل. 1•الحرية والفقد تستحضر قصيدة لبابلو نيرودا (الخوف) موقفا داخليا معقّدا يختلط فيه الفرح بالضغط الاجتماعي. والحرص على الاستمتاع بالحياة. تلك المتعة المفقودة حيث تصبح كرة القدم في مرتبة واحدة مع القفز والنشاط والجري والسباحة والطيران الذي لا يتمكن الشاعر من ممارسته بحرية يقول نيرودا: “الجميع يطلب مني أن أقفز، أن أتنشّط وألعب كرة القدم، أن أجري، أن أسبح، أن أطير.” 2•المهارة والفن في قصيدة كريستوفر ميريل (فتى يداعب كرة)، تأخذ كرة القدم بُعداً مختلفاً تماماً، حيث تدل على الفتوة والمهارة والإتقان والبراعة الفنية. تتنقل الكرة بين قدميه بحركات دقيقة تجعل اللعب أقرب إلى رقصة جمالية. يقول ميريل: يمسكها على فخذه وهو يلتف في دائرة، حتى تتدحرج على ساقه من الداخل، كقطرة عرق تلامس الجسد… ثم يوازنها على مشط قدمه الضعيفة، يرفعها فوق رأسه حتى تعلّق هناك، ويحافظ عليها قائمة بلمسة من عنقه، متنقّلة من جانب إلى جانب، أضعف فأضعف، مثل لحن يحتضر.” الكرة وسيلة فنية للتعبير، والجسد أداة موسيقية ايقاعها تناغم الحركة. 3•ذاكرة ة الأمان في وطن مسلوب في قصيدة مارلين هاكر) أخبار الصباح) ثمة حضور رمزي للكرة من خلال قميص فريق كرة القدم الذي يعثر عليه الشاعر وسط الركام بعد انتهاء الحرب. تقول هاكر: “من ارتدى هذا الفستان القطني المزخرف المفرود بالنشا؟ من ارتدى هذا القميص الموشّى بشعار الفريق المحلي لكرة القدم؟ من ترك هذا الرغيف الأسمر وذلك الخبز الذهبي المسطّح في بيوتهم المهجورة؟ أي أبٍ استجدى الرحمة في المطبخ؟” القميص شاهدٌ على حياة مفقودة؛ أثر لما كان يجب أن يكون زمنًا آمناً، - كرة القدم الغائبة مع الأطفال تركت (القميص والخبز الأسمر المعد لتوه.. والفستان المكوي بحرص) شهودا على الفقد والحسرة. 4•بين الشغف وتمكين المرأة في قصيدة مارلين لوت (فتاة كرة القدم) تتحول كرة القدم إلى مساحة للتعبير على القدرة على الاختيار والابداع عند التمكين. تختار الفتاة اللعبة بنفسها، وتكرّس جهدها للعمل الجماعي والفوز، متجاوزة الصورة النمطية برسائل المساواة النسوية. تقول لوت: “إنها تخرج إلى الملعب وتبذل قصارى جهدها كل شيء يتعلق بالعمل الجماعي والفوز هو هدفها.” وتقول “هيا أيها الناس وشاهدوا المباراة إذا أردتم رؤية الأفضل فتاة يمكن أن تكون ملكة جمال لكن كرة القدم هي هدفها!” كرة القدم وسيلة لتمكين المرأة وإيضاح مهارتها وقدرتها على إنجاز أي شيء كان يتفرد بممارسته الرجال. 5•مرآة اليومي وحركة الطبيعة في نص) شعر وأزهار) للشاعر لوك ديفيز، تبدو كرة القدم وكأنها امتداد طبيعي للحياة اليومية، يقول: “الحقائق والعصافير والورود تذهب إلى الجنون، حتى مع قدوم الشتاء، الحديقة تحت الشرفة تزهر، والمنتزه مكتظ بالشمس وكرات القدم.” كرة القدم لا تنافس الطبيعة، بل تتناغم مع الطاقة والحيوية التي تولدها الطيور والزهور وتتجسد أيضًا في حماسة المشجعين واللاعبين. المشهد يجعل الكرة والحراك حولها جزءًا من أعراف الناس، وكأن اللعبة جزء من الإيقاع الطبيعي للحياة اليومية. 6• الشهرة والاقتصاد في قصيدته حول ليونيل ميسي، يرى حيدر العبدالله كرة القدم كرمز للشهرة والتأثير الاجتماعي والاقتصادي، يظهر النص أن شهرة الأرجنتين في العالم اليوم جاءت بفضل كرة القدم وإنجازات لاعب كرة قدم وكأن حيدر يقدّم ردًا مبطنًا على بورخيس الذي صرح ذات مرة بأن “كرة القدم منتشرة لأن الغباء منتشر.” بورخيس يبرز الجانب السلبي للانتشار كميوعة للحداثة السائلة، وحيدر يسلط الضوء على قوة اللعبة في التأثير الاجتماعي، الثقافي، والاقتصادي يقول حيدر: “ولعًا بأرجنتين ميسي لا ولعًا بأرجنتين (بورخيس) قدماك راويتا حكايتها والشاعران بلا قواميسِ.” ويقول “شعبيةُ الفنان أعظمُ ما يُعطاهُ من حمدٍ وتكريسِ نُصُبُ البرونزِ هي الجوائزُ لا ذهبُ الكرات وفضةُ الكوس.” وهذا يثير سؤال مهما ما هو الأهم الشهرة التي تساهم في التنمية أم طريقة الوصول إلى هذه الشهرة؟ 7• التعصب والانتماء الجاهلي يرصد الشاعر محمد قرين في نصه الفكاهي الساخر، عن ليونيل ميسي ظاهرة التعصب الرياضي، ويبرز المنافسة الشرسة بين الفرق والمشجعين حيث فوز الفريق فوز مشجعيه والمساس بالفريق مساس بهم يقول: “ميسي أراك على خيل مجنحة وكان (بيبي) على خيل من الخشب” ويقول في نفس النص: ولو يلاقي الريال السمج برشلنا الجميل حتما يسل الدم للركب” وبيبي المراد به هنا هو من أشهر مدافعي ريال مدريد والمقارنة بين اللاعبين في النص تظهر التعصب في اللعب الرياضي المتلازمة مع ذم الخصم أو التهوين منهم وكأن ساحة اللعب حرب جاهلية والكرة سيوفها ورماحها نستطيع أن نلاحظ صورة مشابهة في قصيدة الشاعر الجاهلي عمر بن كلثوم مقارنا بين قبيلته والأعداء: “كَأَنَّ سُيُوْفَنَا منَّا ومنْهُم مَخَارِيْقٌ بِأَيْدِي لاَعِبِيْنَا كَأَنَّ ثِيَابَنَا مِنَّا وَمِنْهُمْ خُضِبْنَ بِأُرْجُوَانِ أَوْ طُلِيْنَا” ولا يخفى أن صورة (الدم للركب) المتداولة بين العامة والساخرة في النص هي وجه آخر ل خضبن بأرجوان. إذا لعبة كرة القدم في هذا السياق مرآة للصراعات الاجتماعية الجاهلية تلبس ثوبا حديثا. 8•الدنيا وتقلبات الدهر: يقدّم محمد الحيراني في قصيدته «كرة السحر» قراءة فلسفية عميقة لكرة القدم، تتجاوز حدود اللعب والفرجة، لتغدو رمزًا لتقلّبات الدهر وصروفه. الكرة استعارة كونية تختزل تناقضات الحياة نفسها يقول الحيراني: “كُرَةٌ مُسْتَدِيْرَةٌ لَسْتَ تَدْرِيْ أَيَّ وَجْهٍ مِنْهَا لِـمُرٍّ وَحُلْوِ؟” ويقول “كُرَةٌ وَالثَّبَاتُ فِيْهَا مُحَالٌ! أَهِيَ الدَّهْرُ، أَمْ عَن الدَّهْرِ تَرْوِيْ؟” كرة القدم لحظة انتشاء سرعان ما تتبدّد، وفوران فرحة قد تذوي في ثانية. إنها لوحة رمزية للحياة نفسها، حيث يلتقي اللهو بالجدّ، واللعب بالمصير. ختاما: تتجلى كرة القدم في الشعر بصور متعددة تتنقل بين الحرية والفقد، والمهارة والفن، والذاكرة ووهم الانتماء، والشغف والفعل اليومي والطبيعة وحيويتها، والشهرة والاقتصاد، التعصب، والفلسفة. إن تنوع هذه التجليات يجعلنا ندرك أن كرة القدم لم تعد حكرًا على الملاعب والجماهير، بل أصبحت لغة رمزية داخل الشعر، تحمل في طياتها أسئلة الإنسان الكبرى. وحتى لو كان انتشار كرة القدم وتسليط الضوء عليها مرآة سلبية للحداثة السائلة، لنا أن نسأل أنفسنا أولم يساهم هذا الضوء السلبي بإنارة مساحات إيجابية أخرى من التراث، والفن، والأدب، والسياحة؟ أولم يساهم أيضا في إنعاش الاقتصاد في البلدان التي يتكور بها؟ ربما.