مدينة ثــاج ..

ملتقى الحضارات.

التاريخ والذاكرة والحضارة، سمات تُنسج منها أسطورة مملكة ضائعة في عمق الصحراء. مدينة مدفونة تحت رمال الشرق، ما زال صوتها يتردد عبر الزمن، حاملاً قصة أميرة بريئة مسجونة في حضارة لم تستطع القرون أن تمحو آثارها. في قلب تلالها الرملية، اكتشف الأثريون رفاتها. شاهدة على حياة تنوعت بين السياسة والتجارة والطقوس الاجتماعية، وازدهارٍ نشأ تحت ظل حضارة هيلينستية ما زالت آثارها تترجم قوة المكان وعظمة زمنه على ربوة شامخة، وبعيدًا خمسة وثمانين كيلومترًا غرب الجبيل، تمتد ثاج كقصيدة من حجر وفخار، تتنفس التاريخ على مساحة تقترب من ثمانمائة ألف متر مربع. حيث تتناثر الشواهد في صمت مهيب، يبقى الفخار والحجارة شهودًا على زمن انسحب خلف ستار الغموض، حتى جاء من ينفض عن ملامحه غبار القرون، ويعيده إلى الوجود. بمياهها الجوفية وخصوبة أرضها، ازدهرت وصارت محطة رئيسة على درب القوافل القادمة من بلاد الرافدين، والمتجهة نحو قلب الجزيرة وشرقها. وبين صخورها وذاكرة أبنائها، ظل اسمها محفورًا في سجل المجد، وأصداؤها تتردد في رمال الشرق، كأنها تهمس للتاريخ بأنها ما زالت حية. احتل موقعها مكانة لافتة في سجل البحث التاريخي، بعد أن شهدت رحلات التنقيب فيه محطات بارزة، كان من أهمها ما قاده جيفري بيبي والبعثة الدنماركية عام 1968. ورغم محدودية الحفريات، فقد حملت معها ملامح من العصر السلوقي، وظهرت أوانٍ فخارية ورماح تعود إلى عصور البرونز، شاهدة على عمق الحضارات التي مرّت من خلالها . وفي مطلع الثمانينيات، جاءت المبادرة السعودية عبر هيئة الآثار والمتاحف، لتطلق مسحًا شاملاً كشف عن مدينة نائمة بين طيات الزمن، يطوّقها جدار حجري بطول نحو تسعمائة متر، تنتشر داخله أساسات منازل، وتحط بين أنقاضه سلع فخارية وزجاجية، وأحجار كريمة، تروي بلغة الصمت حكاية إنسان تواصل مع بيئته وصنع من تفاصيلها حضارة. سجّل التاريخ أولى الرحلات الأوروبية إليها مع المستكشف والضابط ويليام شكسبير، الذي مر بالمنطقة ووثق بعض ملامحها. ثم جاء هارولد ريتشارد ديكسون عام 1942، ليترك في ملاحظاته ونشراته توثيقًا مبكرًا لموقع ظل يحفظ أسرار الزمن في طياته. مع بدء أعمال التنقيب عام 1998، بدأت ثاج تظهر وجهها الحقيقي. في موقع «تل الزاير»، اكتشف الأثريون قناعًا ذهبيًا غطّى وجه فتاة، دليلًا على مكانتها الاجتماعية العالية. حول القناع، وُجدت مجوهرات من العقيق والفيروز واللازورد، بعضها جاء من مناطق بعيدة، لتدل على أن المدينة كانت متصلة بالعالم، وحضارة ثرية تركت أثرها في قلب الصحراء. في البداية ظهرت قطع صغيرة وشرائط معدنية شكلت سريرًا جنائزيًا ( لفتاة بطول 120 سم ، وكانت تبلغ من العمر حوالي 9 سنوات إلى 11 سنة ) ، ارتفع على قوائم تماثيل أنثوية من الرصاص على الطراز الإغريقي، وعثر تحت الجثمان على ثلاث أوان معدنية متآكلة. حوى الكنز ثلاثة عقود ثمينة، أحدها بفص ياقوتي نقش عليه وجه امرأة بشكل واقعي، ثلاث أساور على الساعد الأيسر، وخاتمان على الأصابع، أحدهما يحمل صورة أرتميس، والثاني وجهًا جانبيًا لرجل غامض. استقر القناع على الجمجمة بطول 17 سنتيمتراً، والكف بطول 15 سنتيمتراً، محاطًا بأكثر من ثمانين قطعة، زخرفت معظمها نباتيًا، وثلاث رقائق حملت صورة زيوس واقفًا، وأخرى نسرًا. القناع يبرز ملامح وجه بارزة بأسلوب هندسي مبسط، كل قطعة تحكي عن السلطة والدين والروحانية. حين فُتحت أبواب الجبانة الكبرى، التي تضم أكثر من ألف مقبرة، انطلقت من باطن الأرض حكايات صامتة؛ دفن فردي وآخر عائلي، بعضها بسيط، وبعضها مزدان بالذهب والمجوهرات. لم تكن اتجاهات الدفن واحدة؛ فقبور تواجه الشمس وأخرى تنظر نحو المجهول، وكأنها تحاور الأبدية من زوايا مختلفة. وفي عام 2017، ظهر اكتشاف لافت عُرف بـ»الدائرة البيضاء»، وهي قطعة هندسية تضم رفاتًا جماعية وآثار مبانٍ يُرجح أنها خُصصت للطقوس أو الإدارة، في إشارة إلى أن تخطيط المدينة كان يراعي البعد الروحي والديني لسكانها. كما أظهرت الحفريات أقدم فرن للفخار في المنطقة الشرقية، شاهدًا على أن صناعة الفخار كانت مهنة أصيلة لأهلها، تلبي احتياجاتهم اليومية وتدعم حركتهم التجارية. مع كل خطوة جديدة في أعمال الحفر، كانت ملامح الحياة القديمة فيها تتضح أكثر. كشفت بقايا البيوت وأدوات الاستخدام اليومي عن مجتمع منظم، أتقن أهله الزراعة بذكاء، وابتكروا طرق ري معقدة تدل على وعيهم بندرة الماء وحسن إدارة موارده. كما أظهرت الأدوات الحجرية والحديدية براعتهم في الصناعة، من الأسلحة إلى أدوات الزراعة والبناء، لتؤكد أن ثاج لم تكن مدينة ساكنة، كانت مركزًا اقتصاديًا نابضًا بالحياة. فيها التقت حضارات شتى؛ فنقوش حروف المسند أعادت أصداء مملكة سبأ، ومجوهراتها وزخارفها حملت أثر فارس الساسانية، فيما كشفت العملات الرومانية والأواني الفخارية عن تواصلها مع العالم المتوسطي. كل ذلك جعل من ثاج حلقة وصل بين الشرق والغرب، ومع هذا التنوع، ظل للثقافة العربية القديمة حضور راسخ، يعكس تعدد المعتقدات قبل بزوغ الأديان السماوية. ربما لو عرّفنا الطين جيدا لكان منه، أنه المادة التي تصوغ ذاكرة الحضارات. في ثاج خرج الطين على شكل دمى صغيرة تحمل معنى أعمق من شكلها. وجوه وأجساد طينية صنعت للطقس والشعائر، للرمز والعقيدة، لتعكس حضور الإنسان ومعتقداته عبر الزمن. التراكوتا فيها تختلف عن مثيلاتها في المواقع الأخرى. أعدادها كبيرة ودلالاتها متعددة، حتى صارت المدينة مركز إنتاج لهذا الفن. ما وصل كاملًا وما وصل مكسورًا انقسم إلى قسمين ؛ دمى حيوانية وأخرى آدمية. الجمل يتصدر المشهد. رؤوس وأعناق وأبدان مزخرفة بخطوط ونقاط تذكّر بالعلامات المميزة للملكية والهوية ، هو قربان ورفيق الروح في الانتقال إلى العالم الآخر. الأسد رمز الحماية، الثور صورة للإخصاب، الأفعى إشارة للشفاء والخصوبة في حضارات عدة. النسر حاضر، البومة شاهدة، الحصان شريك في طقوس العبور، وظهرت دمى غريبة أقرب إلى الفقمة والدلفين، صدى تأثيرات وافدة من المتوسط. الدمى الآدمية تمثل الإلهة الأم، رمز الأرض والخصوبة. صدور بارزة، أرداف ممتلئة، زخارف على العانة، عقود تطوق العنق، ملامح بعينين كبيرتين وفم صغير. العرى أسلوب فني مشبع بالرمز، يدعو للخصب والولادة. بعض الدمى جالسة تحتضن صدرها في هيئة أم حانية، بعضها واقفة متأثرة بالفن الهيليني، لكنها تحتفظ بروح أصيلة. الذكور يظهرون في رؤوس نصفية وأجساد متفاوتة القوة. بعضهم أقوياء، بعضهم ضعفاء بأجساد منهكة بالمرض، قُدمت قرابين طلبًا للشفاء. رأس بملامح آشورية أو بابلية، بلحية غزيرة وعيون نافذة، ربما جسد كاهنًا أو رمزًا روحانيًا. يشير بعض المؤرخين إلى تشابه محتمل بين ثاج ومدينة جرهاء، التي وصفها الجغرافي سترابو كمركز تجاري تحكمه نخبة، وهو تشابه يفتح أبواب أسئلة جديدة، ويمنح الأبحاث المستمرة حولها مزيدًا من الأهمية في محاولة فهم دورها الحقيقي في تاريخ الجزيرة العربية. وجدت ثاج مكانها في كتب التاريخ والمعاجم العربية القديمة؛ فقد ذكرها ياقوت الحموي في معجم البلدان كمدينة عريقة متجذرة في عمق الصحراء، ووصفها الهمداني في صفة جزيرة العرب بوصفها مركزًا حضاريًا وملتقى للثقافات. وفي الشعر، حضرت في أبيات عمرو بن كلثوم، والفرزدق، وذي الرمة، وراشد اليشكري، كإشارات أدبية متناثرة لكنها دالة، تكشف أن ثاج مدينة حية في الذاكرة، ملهمة ومعنى له حضور وهوية. وتشير المصادر التاريخية إلى أن مالك بن مسمع، سيد من سادات قبيلة بكر بن وائل في البصرة، لجأ إليها بعد معركة الجفرة في زمن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان. مع بزوغ فجر الإسلام، واصلت ثاج أداء دورها الاستراتيجي على طرق التجارة والمسالك العسكرية، فكانت قوافل الخلافة الإسلامية تعبرها في رحلتها بين المشرق والمغرب، مؤكدة أهمية موقعها الجغرافي الفريد. تقف كشهادة حية على عبقرية الإنسان في مواجهة الطبيعة، وعلى صراع الحضارات الذي عبر رمالها عبر العصور. حجارتها الذهبية، وذكريات أهلها المدفونة، تواصل سرد حكاية مدينة لم تمت، بل انتظرت من يوقظها ويحمل إرثها في ذاكرة العالم. وكل يوم حفر على أرضها، يضيف سطرًا جديدًا ويعيد رسم خريطة تاريخ الجزيرة. آثار «كنز ثاج» رحلة مستمرة عبر المتاحف العالمية ضمن « معرض روائع آثار المملكة « ، لا مثيل لها، ولا يقارنها شيء، حتى من حاول نسخها أو محاكاتها، ومن تابع مسارها عبر القارات. بدأت جولتها فى اللوفر بباريس، ثم امتدت إلى الإرميتاج فى روسيا، بيرغامون فى برلين، ساكلر فى واشنطن، كارنيجي فى بيتسبرغ، الفنون الجميلة فى هيوستن، نيلسون أتكينز فى كانساس، الفن الآسيوى فى سان فرانسيسكو، بيناكى فى أثينا، والوطني الروماني فى إيطاليا، واختتمت فى اللوفر أبوظبى. هذه الآثار، بما تحمل من ذهب ورموز وتراث، كانت إحدى أبرز القطع التي خرجت من رمال الجزيرة العربية إلى القاعات العالمية، لتصبح شاهدة على ثاج، مدينة التاريخ والذاكرة والحضارة، حضارة صنعت للتراب ذاكرة، وللرمز لغة، وللعالم رسالة لا تمحى. ثاج مظلومة.. مظلومة علميًا وإعلاميًا وأثريًا. لم تُنصفها البعثات كما أنصفت مدنًا أقل منها، ولم تأخذ حظها من التوثيق والدراسة والاكتشاف. أبحاثها قليلة، وصورتها في الوعي العالمي غائبة، رغم أنها تحمل ذهبًا ودمىً وقصصًا تجعلها ندًا لأعظم الحضارات. هي مدينة كان يجب أن تكون على خرائط العالم، لكنها ما زالت تنتظر أن يُنفض الغبار عن تاريخها أكثر وأكثر .