مهنة الدلالة في مهرجان بريدة للتمور:

من وساطة تجارية إلى تراث حي.

يُعَدُّ مهرجان بريدة للتمور، المقام في منطقة القصيم، نموذجًا فريدًا يتقاطع فيه النشاط الاقتصادي مع العمق الثقافي. فإلى جانب كونه تظاهرةً تجاريةً ضخمة، يمثل المهرجان بوتقةً ثقافيةً تُجسّد التراث المحلي. وفي هذا السياق، تبرز مهنة الدلالة كعنصرٍ جوهري لا يمكن فصله عن بنية المهرجان، إذ تتجاوز وظيفتها الوساطة التجارية لتصبح إرثًا حضاريًا متأصلاً ونسيجًا حيًا تضفي على المهرجان طابعاً فريداً وعمقاً تاريخياً. الخبرة المُتراكمة والذاكرة الشفهية: أسس المعرفة لدى الدلال تُشكل مهنة الدلالة في هذا السياق حالةً استثنائية في علم الاجتماع الاقتصادي، حيث لا تعتمد على النظم التجارية الحديثة، بل على المعرفة الفطرية والخبرة المكتسبة. يمكن اعتبار الدلال مؤرخًا شفهيًا للتمر، فهو يُقدّم سردًا معرفيًا عن خصائصها، ومصدرها، وجودتها. تُعدّ هذه المعرفة المُتراكمة عبر الأجيال، والتي تنتقل بشكل غير رسمي، المرجع الأساسي في تحديد القيمة السوقية للتمور. في مقابل الاعتماد على الخوارزميات والبيانات الضخمة في الأسواق المعاصرة، يُمثل سوق بريدة للتمور نموذجًا يعتمد فيه تحديد الأسعار على الذاكرة الشفهية والخبرة العملية للدلال. إذ تُعدّ عملية «المناداة- التحريج»، التي يقودها الدلال بصوته الجهوري، آليةً اجتماعيةً واقتصاديةً معقدة تتضمن المزايدة والتفاوض، وتُضفي على المكان صبغةً تراثيةً تُعيد إحياء الماضي في كل معاملة تجارية. الأبعاد الأنثروبولوجية: لغة الدلال كأداة لتشكيل القيمة الاقتصادية تُعَدُّ مهنة الدلالة من منظور الأنثروبولوجيا الاقتصادية، ممارسة اجتماعية وثقافية تُشكل القيمة الاقتصادية للمنتج. إن عبارات الدلال المميزة، وإيماءاته، وصوته الجهوري، ونغمته الخاصة، واستخدامه للعبارات الجاذبة، وذكاءه في تقدير قيمة الصفقات. تُعَدُّ رأس مال رمزيًا يُضاف إلى القيمة المادية للتمر، كما يمنح السلعة هالةً من الأصالة والجودة، ويُحوّلها من مُجرد منتج زراعي إلى سلعة مُكتسبة لقيمة ثقافية واجتماعية. هذا الأداء الاحترافي، فإلى جانب كونه يخلق جواً من الحماس والإثارة وجذب إنتباه الزبائن مما يضفي على السوق الحيوية والانسجام الطبيعي، فإنه وهو الأهم يساهم في الحفاظ على الإرث الشفهي للأسواق القديمة. رأس المال الاجتماعي: الثقة والأمانة كقيمة اقتصادية يُعدّ جوهر مهنة الدلالة قائمًا على مبدأي الثقة والأمانة، وهما يمثلان رأس مالٍ اجتماعيًا ذا قيمة اقتصادية عالية. ففي غياب العقود الرسمية المكتوبة، تُصبح سمعة الدلال وكلمته هي الضمانة الوحيدة لإبرام الصفقات. تُورث هذه السمعة من جيل إلى جيل، مما يُعزز من استمرارية المهنة ويُرسّخ مبادئ التجارة الأصيلة التي تقوم على الصدق والعدل. تُبنى العلاقة بين الدلال والمشاركين في السوق على مبدأ الاحترام المتبادل والولاء، مما يُحوّل العمل التجاري إلى شبكة من العلاقات الإنسانية المتينة. هذه الروابط الاجتماعية هي ما يُحافظ على استقرار السوق ويُؤكد أن القيم الإنسانية لا تزال تشكل ركيزةً أساسيةً في الأنشطة الاقتصادية. تأثير المهنة على الهوية الثقافية للمهرجان تُشكل مهنة الدلالة سِمةً وهويةً للمهرجان، وتُضفي عليه طابعًا مميزًا يميزه عن أي تجمع تجاري آخر. إذ تُعدّ صورة الدلال وهو يُدير الصفقات بمهارة جزءًا من الذاكرة البصرية الجماعية للمهرجان، وتُساهم في تشكيل شخصيته الفريدة. يتحول المهرجان بأكمله إلى مسرحٍ حيٍّ لهذه المهنة العريقة، حيث تُحوّل ديناميكيات البيع والشراء إلى تجربة ثقافية فريدة ترسخ في الأذهان أن المهرجان احتفالية بالتراث والمهارة الإنسانية. وإرثاً ثقافياً يجسد أصالة روح مدينة بريدة، وتاريخها التجاري العريق، وعلاقتها العميقة بالنخيل والتمور، فضلاً عن تعزيز الانتماء للمكان. استدامة الإرث الحضاري في سياق التحولات الحديثة: في ظل التطور التكنولوجي وظهور منصات التجارة الإلكترونية تُقدم مهنة الدلالة في مهرجان بريدة للتمور مثالًا حيًا على كيفية استدامة الإرث الحضاري. إن الحفاظ على هذا الإرث وتوثيقه هو ضرورة اقتصادية للحفاظ على الهوية الحضارية لأهم الأسواق الزراعية العالمية، ولتبقى مهنة الدلالة شاهدًا على أن التجارة الأصيلة لا تزال تُبنى على المبادئ والقيم الإنسانية. * أستاذ التاريخ القديم المساعد – جامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل