مابين الشغف والاحتراق الوظيفي.

لم يعد العمل مجرد وظيفة يومية أو مصدر دخل ثابت، بل أصبح موضوعًا للجدل يمس أعماق الموظف النفسية والفكرية. فمصطلحات مثل الشغف والاحتراق الوظيفي، التطور اصبحت تتردد بقوة في اي نقاش عمالي ، واصبحت مطالبات بتقليص ايام العمل إلى أربعة أيام في الأسبوع أو ساعات مرنة وعمل عن بعد ، تعكس تحولًا في نظرتنا إلى العمل أكثر مما تعكس أزمة فعلية في العمل ذاته. ففي الماضي كان العمل يُعرّف بالواجب والانضباط، والمسئولية أما اليوم فقد ارتبط بمحددات اخرى كالشغف ، الابداع ، زيادة الإنتاجية . التطور الوظيفي ، حتى صار الموظف يقيس سعادته بها ويتهم نفسه إن لم يعشق عمله كليًا، وفي المقابل أصبح أي شعور بالتعب أو الإرهاق او زيادة أعباء العمل يُصنَّف سريعًا على أنه احتراق وظيفي. وشعور بالملل ، والسؤال: هل كل ضجر أو ضغط هو فعلًا احتراق وظيفي ؟ وهل من المنطقي أن يكون العمل دائمًا ممتعًا؟ وبلا مشقة . لعلنا بالغنا في استخدام لغة العاطفة حتى أصبحنا أقل قدرة على تحمّل الضغوط الطبيعية الملازمة لكل جهد او عمل وظيفي . وأسباب الملل أو التململ لا تختزل في عامل واحد. فالساعات الطويلة تستهلك طاقة الموظف، والبيئة الغامضة أو غير العادلة تُحبطه مهما كان متحمسًا، وطبيعة العمل إذا كانت رتيبة بلا معنى أو بلا فرص للتطور فهي قادرة على تحويل الوظيفة إلى عبء ثقيل، فالوظيفة او العمل اي كان، مزيج من الوقت والمهام والثقافة المؤسسية، وليست مجرد رقم في بطاقة حضور وانصراف ومرتب آخر الشهر . ومع ذلك، فإن بروز بدائل ومفاهيم جديدة جعل التغيير ممكنًا أكثر من أي وقت مضى؛ فالموظف قادر على إعادة تشكيل مساره الوظيفي باكتساب مهارات جديدة، والمؤسسات بدورها أصبحت أكثر وعيًا بالحاجة إلى المرونة وابتكار طرق ومحفزات تكسب بها ولاء وبقاء الموظف. وبفضل وفرة المعرفة وسرعة التحولات، صار الموظف قادرًا على تغيير مساره أو تعلم مهارات جديدة، واصبحت المؤسسات أكثر مرونة في استيعاب ذلك. لكن السؤال: إذا تغيرت الظروف، هل سنرضى أم سنطلب المزيد؟ فالإنسان –بطبعه– يرفع سقف توقعاته باستمرار. وما كان بالأمس حلمًا (إجازة سنوية أو تأمين صحي . بدلات ، عمولات ) صار اليوم براه حقًا مسلَّمًا به. لذلك فإن مطالبات تقليص ساعات العمل أو أيامه قد لا تكون نهاية المطالب، بل بداية لموجة جديدة من التوقعات كما ان تجارب العمل عن بعد وساعات العمل المرنة اثبتت أن الحلول ليست دائمًا مثالية. نعم خففت من ضغط التنقل ومنحت حرية أكبر، لكنها في المقابل قد تعزز من العزلة الاجتماعية وضبابية الحدود بين وقت البيت والعائلة ووقت العمل. لذلك تظل المعضلة الحقيقية في كيفية تحقيق التوازن بين حق الموظف في حياة متوازنة وحق صاحب العمل في إنتاجية مستقرة. وبالنظر لبعض التجارب الدولية الجديرة بالتأمل؛ في آيسلندا مثلا أُجريت تجربة كبرى بين 2015 و2019 لتقليص أسبوع العمل إلى أربعة أيام دون خفض الرواتب، وكانت النتيجة زيادة في الإنتاجية وارتفاع مستويات الرضا الوظيفي حتى إن معظم القوى العاملة هناك اليوم تعمل بساعات أقل. وفي بريطانيا طبّقت أكثر من ستين شركة التجربة نفسها عام 2022، وقررت الغالبية الاستمرار بها بعد أن انخفضت حالات الاستقالات والإجهاد وارتفعت الإنتاجية. وحتى في اليابان، بلد العمل المكثف و ثقافة ساعات العمل الطويلة، حققت مايكروسوفت فرع اليابان زيادة إنتاجية بنسبة 40% عندما جرّبت النظام ذاته. هذه الأمثلة لا تعني أن تقليص الوقت يصلح في كل مكان، ولكل نوع من الوظائف، لكنها تؤكد أن العلاقة بين الجهد والزمن والإنتاج قابلة لإعادة التفكير. العمل لا ينبغي أن يُختزل في كونه مجرد وقت نقضيه أو شغف لا بد أن يتحقق ونعيشه. بل هو تجربة إنسانية معقدة، تحتاج إلى بيئة عادلة، ومهام واضحة ذات معنى واهداف قابلة للقياس بتوازن حقيقي بين العطاء والراحة. المشكلة ليست في عدد الأيام أو الساعات فحسب، بل في أن يشعر الموظف أن عمله يضيف قيمة لحياته ولغيره، دون أن يلتهم ذاته أو يسلبه طاقته. وياخذ من وقته ووقت عائلته، لذلك الحل لا يكمن في تقليص الوقت وحده، بل في إعادة تعريف العمل نفسه: كيف يكون منتجًا، عادلًا، ويحافظ على إنسانية من يقوم به.