هل نعرف أنفسنا حقًا؟..

الهوية في زمن العولمة.

في زمن تتدفق فيه المعلومات والثقافات عبر الحدود بسرعة غير مسبوقة، وحين أصبح العالم يتسارع نحو التشابه، تطرح أسئلة الهوية بإلحاحٍ أكبر من أي وقت مضى: من نحن؟ هل نعرف أنفسنا حقًا؟ ماذا تبقّى من ملامحنا الأصلية في زمن يُعاد فيه تشكيل الإنسان وفق قوالب ثقافية عابرة للحدود والأثمان؟ لقد غدت الهوية موضوعًا شائكًا، معلّقًا بين الانفتاح على العالم والخوف من الذوبان في الآخر. فالعولمة ليست مجرد انفتاح اقتصادي أو تكنولوجي أو حتى ثقافي، بل هي - في جوهرها - عملية جذرية لإعادة صياغة الإنسان من الداخل، بدءًا من لغته، مرورًا بعاداته، وانتهاءً بمنظومته القيمية. وقد عبّر المفكر الفرنسي فيليب بريتان عن ذلك قائلًا: «أخطر ما تحدثه العولمة أنها تجعل العالم يبدو مألوفًا... إلى أن تستيقظ يومًا ما غريبًا في بيتك.» صرنا جميعًا متشابهين في كل شيء. نأكل ما يأكله الجميع، نرتدي ما يرتدونه، نشاهد ما يشاهدون، ونحتفل بما يحتفل به العالم. دون أن ننتبه أننا، شيئًا فشيئًا، نفقد ذلك الشيء الذي يميزنا عن الآخرين... شيء لا يُوصف، ربما يُسمى الهوية. الهوية ليست بطاقة تعريف، ولا شعارًا يُرفع في المناسبات. إنها نسيج معقّد من اللغة والذاكرة والدين والعلاقات والمكان. هي ذلك الإحساس العميق بالانتماء، بالثبات وسط عالم سريع التحوّل. وقد لخّص مالك بن نبي هذا المعنى بقوله: «القابلية للاستعمار لا تبدأ من الاحتلال العسكري، بل من فقدان الشعوب لإحساسها بذاتها.» جيل اليوم يُولد وهو يتحدث أكثر من لغة، يتلقى ثقافته من الشاشات، ويعيش في حيّ افتراضي يمتد من طوكيو إلى نيويورك. لقد أصبحت الثقافات تتداخل بسلاسة عبر وسائل التواصل، من الأفلام والموسيقى إلى أنماط الاستهلاك والسلوك اليومي. نحن في زمن صار فيه الطفل يتعلم من «تيك توك» أكثر مما يتعلم من كتابه المدرسي. ولهذا الانفتاح وجهان: الوجه الأول: الإثراء. فمعرفة الثقافات الأخرى توسّع أفقنا، وتُعزز من وعينا بذواتنا. أحيانًا لا نكتشف من نحن إلا حين نرى «الآخر». وكما قال الشاعر والفيلسوف رابندرانات طاغور: «لا يستطيع أحد أن يرى العالم بوضوح إن لم ير نفسه أولًا.» الوجه الثاني: الخطر. خطر الذوبان في ثقافة الغالب، وتلاشي الهويات المحلية، خاصة لدى الأجيال الجديدة، حيث يُعاد تشكيل الذوق والعقل والمشاعر وفق منظومات مستوردة، قد لا تنسجم مع جذورنا. وقد نبه إدوارد سعيد إلى هذا بقوله: «الثقافة ليست زينة بل درعٌ منيع ضد الاختفاء.» ولعلّ السؤال الأهم الذي يجب أن يُطرح اليوم ليس: هل نحن ضد العولمة أو معها؟ بل: كيف نحمي أنفسنا من الذوبان ونحن منفتحون عليها؟ كيف نصنع توازنًا بين الأصالة والانفتاح؟ في نهاية المطاف، لسنا ضحية العولمة ولا منتصرين فيها، بل أمام خيار مصيري: إما أن نكتب مشروع هويتنا بأنفسنا، أو نتركه يُكتب نيابةً عنا. فالهوية القوية، ليست تلك التي تنغلق على ذاتها خوفًا، بل تلك التي تتفاعل بثقة، تحاور العالم دون أن تنكر جذورها، وتتطوّر دون أن تذوب. كما قال جلال الدين الرومي: «لا تذُب كالسُكّر في ماء الآخرين، كن أنت الماء النقيّ، واذبهم فيك.»