التستر والتوطين!

شهدنا خلال العقدين الأخيرين جهوداً وطنية متواصلة هدفت إلى توطين الوظائف وتنظيم سوق العمل، وهي جهود تنبع من رؤية طموحة تسعى إلى تعزيز الاستقلال الاقتصادي وتقليص معدلات البطالة، وتمكين أبناء الوطن من فرص عادلة تحفظ كرامتهم وتحفز طاقاتهم. لكن الواقع الميداني كشف عن تحديات تعيق هذا المسار، منها التراجع عن توطين بعض المهن بنسبة 100٪ كما حدث في قطاع الخضار والفواكه، حيث خفضت النسبة إلى 70٪ بقرار من وزارة الموارد البشرية في يوليو 2023، وهو ما يعكس الحاجة لإعادة التقييم وفقاً للواقع العملي. ومن أبرز التحديات التي تعوق فاعلية التوطين: ظاهرة التستر التجاري. فوفق تقرير وزارة التجارة لعام 2023، لا تزال شراكات غير نظامية تخفي تحكم الوافدين في القرار والتشغيل، بينما يظهر المواطن في الواجهة فقط. كما أشارت الهيئة العامة للإحصاء في 2024 إلى أن التستر التجاري يتجاوز 40٪ في بعض الأنشطة الموطنة بالكامل. وتظهر الممارسة الميدانية أن بعض العمال الأجانب يديرون المحلات فعلياً، بل ويحملون بطاقات الصراف المرتبطة بالمنشأة، ما يدل على أنهم المديرون الماليون الحقيقيون، في مخالفة لهدف التوطين الحقيقي. وفي القطاع العقاري، ظهرت بعض الممارسات التي تمثل أشكالاً من التستر، حيث يمارس النشاط من قبل وافدين مستخدمين أسماء سعوديين في عقود الإيجار أو الملكية، في حين تكون السيطرة الفعلية على الإدارة والتشغيل بأيدي الوافدين، وهو ما نص عليه نظام مكافحة التستر التجاري وورد في عدد من القضايا التي نظرتها وزارة التجارة. وقد صاحب هذه الظاهرة تزايد في المخالفات التنظيمية داخل بعض الأحياء، نتيجة استغلال بعض العقارات بطرق غير نظامية تتجاوز رخص البلدية الأصلية. وقد تدخلت وزارة الشؤون البلدية والإسكان مؤخراً بالتنسيق مع البلديات، وفرضت غرامات تصل إلى 200 ألف ريال على من يقوم بتقسيم المباني دون تصريح نظامي. كما أكدت الهيئة العامة للعقار أن تقديم الخدمات العقارية على وحدات سكنية غير مرخصة يعد مخالفة صريحة لنظام الوساطة العقارية. ومع هذه الجهود التنظيمية، يبقى التحدي قائماً في بيئة العمل داخل بعض المنشآت العقارية الصغيرة، خصوصاً في ما يتعلق بكفاءة الكادر وتوفر الخبرات التشغيلية. على الرغم من أن هناك شباباً سعوديين متميزين في القطاع العقاري، إلا أن بعضهم يكتسب الخبرة سريعاً ويستقل للعمل الحر، مما يضطر بعض المنشآت الصغيرة إلى اللجوء لتشغيل وافدين خلف الكواليس، خصوصاً في خدمات التسويق والمحاسبة. وقد أسهم فتح القطاعات الاستثمارية أمام الأجانب في رفع مستويات الشفافية، وضمان المنافسة المتكافئة، وتهيئة بيئة اقتصادية أكثر جذباً، وهو هدف استراتيجي ضمن رؤية 2030 لتنويع الاقتصاد، لا يرتبط بشكل مباشر بملف التستر التجاري، الذي تعالجه أنظمة وتشريعات مستقلة. إن التوطين الناجح لا يقاس بالنسب وحدها، بل بالتمكين الحقيقي والمراقبة الصارمة. وربما يكون من المناسب إعادة النظر في نسب التوطين في بعض القطاعات – كالعقار – لتكون أكثر مرونة، مع تقنين عمل الوافدين وفق ضوابط تحفظ التوازن وتمنع التستر، حتى لا يطغى منطق السوق على ضوابط النظام، ولا تتحول أنظمة السوق إلى عائق أمام نبضه الطبيعي.