الحقيقة والجوازي الشاردة.

في مختلف الثقافات الإنسانية، نجد نسيجًا خاصًا من الشخصيات يُحاط بها هالة من القداسة أو التفوق أو الاستثنائية. شخصيات تُنسب إليها صفات خارقة وقدرات تتجاوز ما هو مألوف للإنسان العادي. فوليٌ تظهر له كرامات استثنائية، وقائد يتحلى بقدرات – فرط صوتية - تمكنه من توجيه جيشه وهو على بُعد آلاف الكيلومترات، ثم ينتصر ذلك الجيش. يتكرر الخيال الجامح في هذه القصص العجيبة في مختلف السرديات الثقافية. فنجد في التراث القديم نصوصًا عديدةً تحكي عن الاستمطار في عز الصيف بينما كان الوليُ وأصحابهُ يسيرون في صحراء قاحلة. وعندما تجاوزت درجة الحرارة اللاهبة خمسين درجة مئوية، وأدركهم الظمأ، وأشرفوا على الهلاك، يطلب الولي الماء القليل الذي بقي معهم، فيتوضأ ويصلي. وما يكاد يفرغ من صلاته حتى تنشأ فوق رؤوسهم غمامة لا تتجاوز مساحتها مئة متر مربع، فيُصَب عليهم الماء صبا، ويروي عطشهم، ويملأ قِرَبَهُم، ويسقي إبِلَهُم، وينقذهم من الهلاك. وفي “التراث الهندي” يتردد مصطلح “السيدهي” الذي يشير إلى قدرات روحية أو خارقة للطبيعة مثل معرفة الماضي والمستقبل، وقراءة الأفكار، والقدرة على رؤية الأماكن البعيدة. وفي “التراث الشاماني” اعترافٌ بأن لدى بعض البشر قدرات التواصل مع عوالم أخرى. أما “التراث المسيحي” فهو مشبع بمعجزات القديسين. لست هنا في مجال الإثبات أو النفي لهذه الروايات وغيرها من السرديات المتفرقة. لكنني أتساءل: ما هو الأساس الفلسفي الذي يجمع بين هذه الروايات؟ وهل ثمة أسس فكرية تجيب على السؤال التالي: لماذا تُنسب المعجزات والكرامات والبطولات والفراسة لأشخاص من غير الأنبياء؟ في التصوف الإسلامي، وكما في بعض الديانات المسيحية والشرقية، تظهر فكرة “الإنسان الكامل” هذا المفهوم يشير إلى الشخص الذي يجمع بين الصفات الروحية والأخلاقية والعقلية والعملية، ويُعَد تجليًا لأعلى صور الكمال الإنساني. المتجسد في الإنسان الكامل الذي يُنسب إليه شيء مما سبق: فهو ولي، أو قائد، أو حكيم، أو ذو فراسة، أو صاحب كرامة. وفي هذه السياقات، تصبح الخوارق أدوات تأويل وفهم يستخدمها الخيال الشعبي لفهم أحداثٍ لا يقدر على تفسيرها بواسطة عقله الخالص. فتُستدعى المعجزة لتمنح النفس الطمأنينة، وتعضد الإعجاب بشخصية دينية أو اجتماعية، وتُبنى عليها سردية جماعية. هذه الأساطير - رغم طابعها الروحي أو الماورائي الذي ربما لم تحدث - إلا أنها تبقى حلولًا نفسية، وأدوات مناسبة لبناء “الشرعية الرمزية”. من المثير للاهتمام أن هذه المفاهيم، رغم انتمائها الأصيل للخطاب الروحي، لم تختفِ في حقبة العلمانية وعصر ما بعد الحداثة. بل فَرَّخَت وتكاثرت في الخطابات والأدبيات الحديثة. فلماذا تستمر هذه المفاهيم بالظهور في الروايات والسير، رغم التقدم العلمي وتطور التفكير النقدي؟ نرى الثائر يُقَدَّم على أنه “يرى ما لا يُرى”، والمفكر العظيم يُعزى له “التنبؤ بالمستقبل”، والقائد الشعبي يُمنح هالة من “الإلهام والحدس والمعجزات”. بهذه الصيغ، تُسْتَعْرَض المعجزات بلغة حديثة. فعوضًا عن “الكرامة” صارت تُستخدم مفردة “الحنكة”، وتحولت “الفراسة” إلى “القراءة الاستراتيجية للواقع” ورغم كل ما شهده العالم من ثورات علمية وفكرية، لا تزال هذه المفاهيم قائمة - بل أصبحت أكثر حضورًا من أي وقت مضى، لكن بصيغ جديدة. في الخطاب الديني، استمرت الكرامات في الأدبيات الصوفية والسلفية على حد سواء، وفي السياسة، تُبنى الزعامات على الكاريزما لا على البرامج العملية. وفي الثقافة، تُنسَج الأساطير حول العبقري الذي “يرى ما لم يرَهُ أحد” أما في الإعلام، فإن الحكايات الخارقة تُسرد لجذب الجمهور أو صياغة المحتوى، أو لصناعة القدوة. هذه مفاهيم “مطاطية” تتحور وفق الحاجة وتواكب الزمن. ولهذا لا تموت نهائيًا، بل تتناسخ. وكأن الخوارق نحتت في عقول البشر كهوفها، وشيدت فيها محاريب يثوي إليها المرء كلما عجز عن الإجابة. يبقى السؤال والبحث الأدبي مطروحًا بوضوح: هل هذه الظواهر حقيقية أم مجرد تهيؤات؟ الجواب ربما يكمن في منطقة وسطى. قد تكون بعض هذه الحكايات مبالغات، أو أوصافًا غير دقيقة لأحداثٍ وقعت، أو حتى إسقاطات نفسية جماعية، لكنها في جميع الأحوال، ليست بلا قيمة معنوية. بل هي تُتَرْجِم أحلامَ الإنسان، وتوقَهُ للنجاة، وتشبثه بالحياة، وحبه للعدالة. الإنسان، بطبعه، لا يقنع بالممكن فحسب، بل يطمح إلى المستحيل. لذلك، ستبقى التنبؤات والمعجزات والكرامات والبطولات حية في الوجدان الإنساني ما دام في الإنسان سؤالٌ لم يجد له جوابًا، أو ألمٌ لم يجد له دواءً، أو حُلمٌ لم يتحقق بعد. فالحقيقة، كالجوازي الشاردة، كلما طاردها الصياد نَفَرَتْ، ولو ظفر بها افترسها ثم اختفت. وفي غالب الأحوال الحقيقة غائبة، هذا إن كانت موجودة أصلًا.