نسيج العالم القديم.

يذكر بيتر فرانكوبان في كتابه (طرق الحرير)، والكتاب من إصدارات دار أدب وترجمة أحمد العدوي، أن قلب آسيا -منذ الأزل- هو البقعة التي شهدت بناء الإمبراطوريات: حيث شكلت الأراضي السهلية الغرينية الخصبة التي يغذيها نهرا دجلة والفرات في بلاد الرافدين الأساس للحضارة نفسها، فتشكّلت المدن والبلدان الأولى في تلك البقاع. واللافت في هذا السياق أن نموذج النسيج الاستعاري لا يفسّر الترابط النصي فحسب، بل يفسر الترابط الاقتصادي بشكل أدقّ، لأنه نشأ على الحقيقة في هذا الحقل، كما يفسّر الترابط الحضاري بين المدن والبلدان على امتداد طرق الحرير، مما يعزز أن العالم في علاقاته الممتدة أشبه بنص كوني معقّد العلاقات متشابك ومتشابه الأطراف. ويمكن لسبر حركة النمو والازدهار، ورصد الترابط بين المدن والقرى من منظور اقتصادي، طرح مسيرة العملة النقدية وتتبع حركتها الدائرية على النحو الذي رسم طريقه السردي فرانكوبان في كتابه آنف الذكر، بقوله، في خيال بديع يستحق وضعه كاملا دون اجتزاء:»ويسعنا أن نتخيّل حياة عملة ذهبية قبل ألفي عام، قد تكون ضربت في دار سكة إقليمية وأخذها جندي شاب جزءا من أجره فاشترى بها سلعة ما على الحدود الشمالية في إنحلترا، ثم وجدت تلك العملة طريقها إلى روما حيث أرسلت إلى خزينة موظف إمبراطوري مسؤول عن جباية الضرائب، قبل أن تجد طريقها إلى يد تاجر وضعها في صرته واتجه شرقا، ثم دفع بها ثمن سلع اشتراها من التجار الذين قدموا لبيع ما لديهم من بضائع في باريجازا وهناك أعجب بها واحد من أهل البلاد فقدمها إلى زعماء هندوكوش الذين دهشوا من جودة تصميمها وشكلها وحجمها فسلموها إلى عاملهم في السكة، وربما كان ذلك العامل رومانيا أو فارسيا أو هنديا أو صينيا، أو ربما كان رحلا محليا يتقن مهارات سك العملة»، ثم يختم بقوله: «لقد كان هذا العالم مترابطا، ومعقدا، ومتعطشا للتبادل التجاري». وفي ضوء ذلك يخلص إلى أن اختزال العالم في خط أو طريق آحاديّ، كما هو الحال عليه في المركزية الأوروبية التي تختزل طريق الحضارة في روما السلف الأوروبي، أو في اليونان، إنما هو تجاهل لكل الطرق الأخرى التي صنعت الحضارة لاسيما في الشرق، إذ كانت روما تتطلّع إليه باستمرار كما تتغاضى عن حقيقة أنها تشكّلت، من نواح عديدة، من تأثيرات مشرقية. وفي ضوء ذلك كشف هذا الكتاب عن «نسيج العالم» المعقّد، الممتد من الشرق إلى الغرب فيما سُمّي بطريق الحرير، وهو في الحقيقة طرق كثيرة وليس طريقا واحدا، إذ لكل إمبراطورية طريقها الذي تصنع به حضارتها وتؤثثه بثقافتها واضعة لغتها على ضفافه كعلامات ومعالم يهتدى بها في ظلمات البر والبحر. أما المفارقة التي تستحق ملحة الوداع وخاتمة المقال، فهي أن معرفة نسيج العالم القديم، كما هو خارج الذهنية الأوروبية، قد يساعدنا على قراءة تاريخ جديد للعالم ليس هو المعهود في ذهنية الرجل الأبيض الذي صنع للعالم الحديث مجازاته ودروبه حاجبا الأفق عن ضوء الشمس، ولولا ما في الكتاب من نظرة قاصرة للفتح الإسلامي بحكم خلفية المؤلف الإيديولوجية أو الحضارية لكان هذا نموذجا كاشفا لهذا التاريخ، غير أن كل مؤرخ لا يخلو من نظرته ورؤيته التي تشكّلت في زاوية لا ترى إلا ما نشأت عليه من التقاليد والأعراف العلمية والمعرفية.