الخيّام ليس شاعراً فحسب.

وُلد الشاعر “عمر الخيّام” في عام 440 للهجرة في مدينة “نيسابور” عاصمة إقليم خُراسان” في عهد الدولة السلجوقية، وقد ورث اسمه من والده الذي كان صانعاً للخيام. لم تكن قصائد الخيّام تقليدية، فقد نُظمت بطريقة تُسمّى “بالرُباعيات”، وهي لونٌ شِعريّ عرفه العرب في المشرق والأندلس، وكلّ رُباعية تتكوّن من أربعة أشطُر: الأول والثاني والرابع على قافيةٍ واحدة، والشطر الثالث من قافية مختلفة. لقد طبقتْ رُباعيات الخيّام الآفاق، وقد كانت خاملةً حتى اكتُشفتْ في القرن التاسع عشر من قِبل الشاعر الإنجليزي “إدوارد فيتزجيرالد”، الذي ترجمها إلى الإنجليزية، أما نقلُها إلى العربية فقد قام العديد من الشُّعراء بترجمتها، من أمثال وديع البستاني ومحمد السباعي وعبدالحقّ فاضل وأحمد رامي وغيرهم. تدور فلسفة الخيّام في شِعره غالباً حول فكرة الوجود والكون والحيرة، والتي عُرفتْ فيما بعد “بالشكّ الديكارتي”، إذ يقول في إحدى رباعياته: لبستُ ثوب العُمر لم أٌستشرْ وحِرتُ فيه بين شتّى الفِكَرْ وسوف أنضو الثوب عنّي .. ولم أُدرك لماذا جئتُ .. أين المفرّ؟ لكنه عاد إلى الخالق عزّ وجلّ تائباً، فقال: يا عالِم الأسرار عِلم اليقين يا كاشف الضُرّ عن البائسين يا قابل الأعذار عُدنا إلى ظِلّك فاقبل توبة التائبين إن حديثنا عن الخيّام هُنا ليس كشاعرٍ فقط، إذ كان صاحب فلسفة علمية، وكان يتّخذ الشّعر هوايةً لا احترافاً، ومن أقدم الوثائق التي ورَد بها ذِكر الخيّام: كتاب “المقالات الأربع”، الذي ألّفهُ “السمرقندي” وهو من تلاميذ الخيّام؛ وقد أورد الخيّام في باب عُلماء النجوم والفلَك، لا في باب الشُّعراء، لأن شُهرته في الرياضيات كانت أكبر من شُهرته كشاعرٍ في زمانه.. يقول السمرقندي: “كُنّا نُسمّيه حُجّة الحقّ، و”الخوجة”: أي الأستاذ، وكان الناس يرونه في الطريق ويقولون: “أفسحوا الطريق للأستاذ”. ويقول “شمس الدين الشهرزوري” في كتابه “نزهة الأرواح”: “كان الخيّام يلي الشيخ الرئيس “ابن سينا” في أجزاء علوم الحكمة، ولهُ ولَعٌ بالتصنيف والتعليم، ولهُ مُختصراتٌ في الطبيعيات، ورسائل في الوجود والكون، أما أجزاء الحكمة من الرياضيات والمعقولات فكان ابن بُجدتها”. وقد كان الخيّام فارسياً، ولكنه كان يُجيد اللغة العربية، وقد بلغ من قُدرته على تطويع العربية للعِلم، أنه ألّف رسالةً أسماها “مقالةٌ في الجبر والمقابلة” باللغة العربية، وضمّنها بحثاً مُُهمّاً في المُعادلات التكعيبية، شارحاً طريقة تعيين جُذور هذه المُعادلات، وقد قام العلّامة الألماني “ويبكه” بترجمة هذه الرسالة، ونشرها مع الأصل العربي سنة 1851، وهناك نسخة منها في دار الكُتب المصرية. وفي منتصف القرن العشرين، صرّح العالم الروسي “روزنفلد”، في مؤتمر المُستشرقين المُهتمّين بدراسة تطوّر العلوم الرياضية في البلاد الإسلامية، بأن الخيّام هو صاحب الفضل في اكتشاف النظرية الجبرية، التي اعتمد عليها “إسحاق نيوتن” في وضع بعض نظرياته العلمية الدقيقة. ولمّا أراد السلطان “ملك شاه” تعديل التقويم السنوي، انتدب جماعةً من العُلماء لهذه المُهمّة، وجعل الخيّام على رأسهم، إذ أظهر براعةً فائقة يتحدّث عنها المؤرّخ الإنجليزي الشهير “جيبون” فيقول: “إن مذهب الخيّام في تقديمه يفضُل التقويم “الجريجوري” أو “الميلادي” تقويماً وإحكاماً”.. وقد سُميّ هذا التقويم “بالتقويم الجلالي”، نسبةً إلى جلال الدين وهو أحد ألقاب السلطان السلجوقي ملك شاه. قد يجد القاريء جَمالاً حِسيّاً عند قراءة شِعر الخيّام، أما الذين يتصدّون للتأريخ والتحليل والنقد، فإن عليهم أن يُقيّموا مقاييسهم لشِعره على أساسٍ علمي.. عليهم أن يستشفّوا من بين ثنايا بعض الرباعيات روحاً علمية، لم يعرفها الشُّعراء في عهد الخيّام منذ أكثر من ألف سنة! تأمّل هذه الرباعية على سبيل المثال: إن تُفصل القطرةُ من بحرِها ففي مداهُ مُنتهى أمرِها تقاربتْ يا ربُّ ما بيننا مسافةُ البُعدِ على قدرِها إن هذا المعنى لهو وليد عقل علمي، يُدرِك أن قطرة الماء تتبخّر بتأثير حرارة الشمس وتصعد في طبقات الجوّ العُليا لتُصبح سحاباً، ثم تتحوّل إلى مطرٍ وتعود إلى البحر الذي أتتْ منه لأول مرّة. ويبقى بعد ذلك سؤال أخير: هل وصل الخيّام إلى الحقيقة التي ينشُدها في مُمارسة العِلم؟ لعل هذه الرباعية تُجيب عن السؤال، حين قال: أفنيتُ عُمري في اكتناهِ الفضاء وكشفُ ما يحجبهُ في الخَفاء فلم أجِد أسرارهُ، وانقضى عُمري، وأحسستُ دبيب الفناء!