الروائي والقاص إبراهيم مضواح الألمعي :

ما زلت أشعر بالغربة عن المدينة ، والقرية أكثر وضوحاً.

من قرى الجنوب الوادعة حتى رفوف الجوائز والمكتبات، تتفتح أوراقٌ لا تزال تحتفظ بعطر البدايات وحرارة تجربة نحاول الاقتراب من ضوئها في هذا الحوار، مع الروائي والكاتب إبراهيم مضواح الألمعي، الذي استطاع أن ينسج من تفاصيل الحياة اليومية ملامح أدبٍ يتقاطع فيه الهم الإنساني مع البعد الفني. وتتمازج فيه الرؤية العميقة مع الأسلوب الآسر، فمن «قطف الأشواك» إلى «مغانم صغيرة»، ومن سيرة «العائشتين» إلى مقالات «جسور الحب والتعب»، تشكلت ملامح كاتبٍ لا يركن إلى تصنيف، بل يعبر الأجناس الأدبية ليبلغ جوهر الفكرة، مستندًا إلى أسلوبٍ واضح المعالم، وتجربة متأنية في القراءة والكتابة. حاز في مسيرته الأدبية على عدد من الجوائز الأدبية، من أبرزها جائزة الشارقة للإبداع العربي عن رواية «جبل حالية»، وجائزة حائل للرواية عن رواية «عتق»، إلى جانب جائزة أبها الثقافية، وجائزة نادي جازان الأدبي في القصة القصيرة، كما نال في مسيرته المهنية وسام وزارة التربية والتعليم للمعلم المتميز عام ٢٠٠٠. في هذا الحوار، نصغي لما بين السطور؛ حيث تتجلى ملامح الرحلة، وتتكشف مراحل التحول بين القرية والمدينة، التعليم والحياة، القصة والرواية، والذاكرة والهوية... ونفتح نوافذ الأسئلة على صوت أدبي صاحب مسيرة حافلة بالمراجعة والتجريب. •هل تمنحك القرية عمقًا إنسانيًا لا تتيحه المدينة، أم أن المدينة تقدم تعقيدًا سرديًا يصعب مقاومته؟ •لكل من القرية والمدينة إيحاءاتها السردية، غير أن الصورة القروية تبدو لي واضحة من أكثر من اتجاه، وربما لارتباطها بمرحلة الطفولة، وخلوة البال، وربما لتخمُّرِ المشاهد، ونضوجها، وسهولة استدعائها، وملء الفراغات، أما المدينة فتحتاجُ اندماجًا في أوساط عديدة حتى تُشكِّل مشهدًا يمكن روايته على نحوٍ ملائم، وما زلت أشعر بالغربة عن المدينة، ولذلك أجد أنني أرصد الحالات المدنية سرديًّا من خارجها. •من خلال تجربتك الطويلة في الكتابة والتأليف، ما أصعب ما يواجه الكاتب في سنوات النضج الأدبي؟ •هناك صعوبات تتعلق بفعل الكتابة، ويأتي في مقدمتها حسابات الكاتب الذاتية، والدينية، والاجتماعية، والرقابية؛ التي تجعله يسير على حدِّ سكين، فيضطر في عديد المواقف إلى تجاوز الفكرة المدهشة، إلى فكرة أقل إدهاشًا، وربما رجع بالمحو على كلمات، أو سطور، أو فصول. •التعليم، مهنة الصبر، هل كانت رافدا لتجربتك أم خصما عليها؟ •لم يكن التعليمُ بالنسبة لي مهنةً فحسب؛ بل كان فوق ذلك هوايةً ورسالة؛ أحببتُ طلابي، واحترموني، وأحبَّني أكثرهم، وقلت يومًا: “نضَّرَ الله وجهَ مُعلِّمٍ أحبَّ طلابَه وأحبُّوه”، ولذلك فقد كان التدريس والاحتكاك بالوسط التعليمي رافدًا للتجارب؛ خاصةً في بداياتي القصصية، وأتذكَّر أنني حين أهديت مجموعتي القصصية الأولى، (قطف الأشواك) الصادرة عام 2001م، لوزير التعليم الدكتور محمد الرشيد رحمه الله، أشار في رده إلى أن النصوص لامست جوانبَ تربوية مهمة من وجهة نظره، ووجَّه باقتنائها من قِبلِ الوزارة لصالح مكتبات المدارس، وقد كان. •كيف تصف علاقتك مع اللغة؟ •اللغةُ كائنٌ حي، وتذوقها الجمالي لذة لا توصف، والكُتَّابُ الكبارُ هم أولئك الذين يمتلكون أساليبَ تشبههم، إلى درجة أن تعرف أساليبهم حتى لو لم تذيَّل بأسمائهم؛ من أمثال: الزيات، وطه حسين، والطنطاوي، والقصيبي، وقد تأثرت بأساليبهم على تنوعها، وعليَّ أن أسعى إلى امتلاك أسلوبي الخاص، ولو كانَ مزيجًا من هذه الأساليب المختلفة. •من يتأمل عناوينك، يلمس خلف كل كتاب قارئًا جادًا قبل أن يرى كاتبًا. في تجربتك، ما الذي تصنعه القراءة في الكاتب؟ وهل المعرفة وحدها كافية للكتابة؟ •القراءةُ زادُ الكاتب، تفتح له آفاقًا واسعة، وتلفت نظره إلى زوايا وخبايا ربما لم يقصدها الكاتبُ الأول، ولكنها جزء من طبيعة التلقي؛ على ألا تكون قراءةً مؤدلجة، ولا تابعة مستسلمة، والقراءة على أهميتها للكاتب لا تصنعُ كاتبًا جيدً؛ فهناك عوامل أخرى ضرورية منها: الاستعداد، والموهبة، والمثابرة والتوفيق. كما أن المعرفة الواسعة وحدها لا تصنع كاتبًا، فكم من جامعي معارفَ ومعلوماتٍ يعجزُ أحدهم عن تحريرِ نصٍّ أدبيٍّ جيد. •هل تؤمن أن الكاتب يُعيد تشكيل ذاته من كتاب إلى آخر؟ •في تجربتي الذاتية أتماهى مع العمل الذي بين يدي، وأنسى ما عداه، ولا أكاد أرى نفسي ولا ما حولي إلا من خلاله، فإذا تمَّ انصرفتُ عنه، وكدتُ أنساه، حتى يأخذني عملٌ آخر لا أسعى إليه، وإنما أجدُ ميلاً لإنجازه ينمو حتى يسدَّ عليَّ نوافذ التفكير؛ فأبدأ التحضير له، والعمل على إنجازه. •ما الذي يجعل القصة القصيرة قادرة على البقاء في زمن طغت فيه الرواية على المشهد الأدبي؟ •العلاقة بين الفنون الإبداعية تتجاور وتتكامل، وليست علاقة صراع وإزاحة، وقد يميل جيلٌ لنوعٍ على حساب نوعٍ آخر، ولا بأس بذلك فله دوافعه الظرفية؛ فالمهم أن يُعَبِّرَ المبدعُ عن ذاته وهواجسه، في الشكل الفني الملائم له، والملائم للفكرة التي يعالجها، والحالة بين الفنون في مدٍّ وجزرٍ، وفي النهاية ستبقى الأعمال الأكثر صدقًا، وإلهامًا؛ مهما كان نوعها. •برأيك، ما أهم مقومات الرواية؟ •هناك مقومات فنية معروفة لا رواية بدونها، وهناك مقومات أخرى رافدة، تتعلق بموضوع الرواية؛ من الجِدَّةِ، والإلهام، وملامسة حساسية المتلقي، وكذلك عوامل خارجية من التلقي النقدي، وحسن اختيار الناشر، ومصادفة الجوائز، أو إثارة الضجة؛ غير أنني أرجع فأقول: إن كل هذه العوامل الخارجية سيذهب بها الزمن ويبقى العمل مجردًا إلا من أصالته وقيمته الفنية. •هل تعتقد أن الجوائز تُشكل دافعًا صادقًا للكاتب؟ أم أنها قد تؤثر سلبا في توجهه الأدبي وطريقة اختياره للمواضيع؟ •الجوائز التي تأتي تقديرًا لعمل ناجز بدافع أدبي صِرْفٍ ستكون حافزًا للكاتب الفائزة أعماله، ولغيره من الكتاب أيضًا، أما الأعمال التي تكتب على حسِّ الجوائز ففي الغالب أنها ستكون مؤطرة باتجاه الجائزة، وحساباتها، وحتى لو فازت بجائزة فالغالب أنها ستكون بلا روح إبداعي يُشِعُّ ويجتذب القارئ على المدى البعيد. • ككاتب قصة، هل تشعر أن شغف القراءة لها بقي حيًّا كما كان، أم أن حضورها بدأ يتوارى أمام سطوة الصورة وسرعة الوسائط الجديدة؟ •ليست القصةُ وحدها التي تأثرت بالمعطيات التقنية المعاصرة، فالقراءة بشكل عام في كل الفنون قد تأثرتْ بهذه الوسائط الآنِيَّة السطحية والمغرية، حتى التفكر والتأمل قد توارى أو كاد بسبب هذه الصور الخاطفة والمشاهد العابرة، التي تختلس الوقت، وتشوِّش التفكير، وقد طال هذا التأثير كتابَ القصة أنفسهم إما باستسهال الكتابة والنشر السريع، دون تمحيص أو مراجعة، وإما بالإحجام عن الكتابة للشعور بعدم الجدوى، أو لغير ذلك من الأسباب. •هل مرت بك لحظة شعرت فيها أن الكتابة أصبحت عبئًا عليك؟ •لا أظنُّ كاتبًا -وخاصةً في هذا الزمن- لم تمرّ به لحظاتٌ كهذه، ويتفاوت الكُتَّاب في التعاطي معها، إما بالصمت التام، وإما بالصبر والتجاوز، وأما بالبكائية، والادعاء، وشكوى القراء والزمان، والأحياء والأموات. •في أكثر من عمل، توجهت لتوثيق شخصيات من “رجال ألمع”، فهل كنت توثق من خلالهم للهوية الألمعية، أم تؤرشف ما تخشى عليه من النسيان؟ •الغالب أن يكون الدافع للكتابة عن شخصيات ألمعية هو واجبُ الوفاء لأعلام اجتهدوا في مجال ما، وبرزوا فيه؛ وغابوا عن الأضواء، فأكتب عنهم بدافع الشكر، وتخليد الذكر، والتشجيع على الاقتداء بهم، ونقل خَبَرِهم إلى الأجيال التالية. •حين تناولتَ سيرة التيمورية وبنت الشاطئ في” العائشتان”، هل كنت تُنصف دورًا نسويًا مغيّبًا، أم تضيء تجارب إنسانية تجاوزت حدود النوع والجنس؟ •حين قرأتُ سيرتَي هاتين السيدتين وجدتهما سيرتين ملهمتين، لسيدتين جديرتين بأن تروى وتُحتذى، لنضالهما في سبيل طلب العلم، وتكوين الذات، ومطاردة الحُلُم، حتى تحقيقه على أرقى مثال، ثم إنهما امرأتان ولذلك فلا شكَّ أن العوائق في طريقيهما أكبر، والتحدِّي الذي واجهتاه أشق. •في كتاباتك عن أعلام؛ كابن حزم، والطنطاوي، ومحمد إقبال، وغيرهم؛ هل كنت تنصت لصدى فكرك فيهم، أم تبحث عبرهم عن مفاتيح لأسئلة تأخّرت إجاباتها؟ •الأمران معًا، فقد وجدتُ لدى هؤلاء تناغمًا مع ميولاتي الفكرية والأدبية، وفي أدبهم إضاءات لمناطق مجهولة لم أكن فكرتُ فيها أو أنني فكرتُ فيها، ولم أصل إلى إجابات، أو رأيت فيهم نماذجَ إنسانية، تصلح مُثُلاً عُليا نتمنَّى أن تسود هذا العالم. •هل يمكن للمقال أن يظل نصًا حيًّا في زمن تتسارع فيه الحياة وتُختزل التجربة؟ •تختلف المقالات فمنها ما هو صحفي آني مكانه الصحيفة، وزمنه زمنها، ومنها ما له جوهر إنساني أو علمي صالح لزمنٍ أبعد، قد يطول وقد يقصُر؛ وبما أننا في زمن الصورة والمشاهد العابرة فقد أصبح لزامًا على كاتب المقال أن يكتُب وفي حسابه حال المتلقي، وما يحيطه من صوارف؛ فيرُكِّز على الفكرة، ويعالجها في أقل الكلمات، وأحسن الأساليب.