لا تعدّوا النجوم!

كنّا صغارًا، نستلقي على أسطح المنازل في ليالي الصيف، نتأمّل نجوم السماء كأنها مصابيح معلّقة في فضاء بعيد، يلفت نظرنا سطوعها، ونلاحق بأنظارنا حركتها البطيئة كما تبدو لنا. كان الكبار يحذّروننا: “لا تعدّوا النجوم!”، وكيف نعدّها وهي بلا حدود! ولعلهم كانوا يريدوننا أن ننام. وهكذا، من ليالي الطفولة تلك، تشكّلت فينا بذرة التأمّل؛ فطرةٌ تدفع الإنسان إلى البحث عن معنى، أو التخفّف من عناء الركض المستمر مع عجلة الحياة السريعة، بينما يرفع بصره نحو المرزم والجدي والثريا وسهيل والفرقدان وغيرها. التأمّل فرصة يلتقط فيها الإنسان نفسًا عميقًا، فيخرج من صخب الحياة إلى لحظة يفتّش فيها عمّا وراء الأشياء، وهو سلوك فطري شغل الإنسان في كل عصوره، وقد أشار إليه المعري مبكرًا. يا ليت شعري! وهل ليت بنافعة؟ ماذا وراءك أو ما أنت يا فلك؟ كم خاض في إثرك الأقوام واختلفوا قدما! فما أوضحوا حقًّا ولا تركوا وقد دوّن العرب في قراطيسهم الكثير من تأمّلاتهم لما يدور حولهم في تلك الصحارى الواسعة والجبال المترامية واتجاهات الرياح، واجتهدوا في التعريف بمسمياتها. وقد شغلتهم طويلًا قبة السماء ، بما تحويه من كواكب ونجوم وسدم. ولا أريد أن أقول “إنهم لم يتركوا لنا شيئًا”، لأن ما حدث في القرون التالية كان مبهِرًا كذلك، حيث توصّل المعاصرون إلى كثير من العلوم المرتبطة بالتأمّل، وتعرّفوا على الفضاء أكثر واستثمروه، كما حدث مع الأقمار الصناعية، ووجّهوا نحوه المركبات بحثًا عن كل ما يتصل بالعلم وأسبابه. الإنسان بطبيعته فضولي، يريد أن يعرف كيف تحدث فصول السنة، وما سرّ لمعان بعض النجوم وخفوت أخرى، وهل تتحرّك النجوم، وما علاقة دوران الأرض حول محورها وحول الشمس بكل ذلك. تلك طبيعته، خصوصًا أن لتلك المظاهر ارتباطًا بحياته ومعيشته، لأنه يزرع ويغرس وينتظر هطول المطر. ومع مرور الوقت بدأ يعرف مواسم المطر الشديدة وأيام القحط، كل ذلك عبر التأمّل والتدوين، قبل أن تأتي الأجهزة الحديثة وعلم الرصد الذي يحدّد لك ـ بل وتراه في هاتفك الذكي ـ مؤشرات الرياح وحركتها ونسبة الأمطار، وكل ذلك بطبيعة الحال بمشيئة الله. في زحمة الحياة، يظل التأمّل لحظة فارقة نلتقط فيها أنفاسنا ونصغي لحديث الكون.