عاصمة الامبراطورية العجوز.

قضى الدكتور “غازي القصيبي” رحمه الله جُزءاً من حياته في “لندن”، عرف فيها شواهق السعادة، كما انحدر فيها إلى وهاد الألم.. عاش فيها طالباً يُزاحم الناس في الحافلة، لأنه لا يملك أُجرة التاكسي، وعاش فيها سفيراً يتنقّل في أفخم السيارات المُصفّحة. قال وهو يودّعها الوداع الأخير: “لا يُمكن للوداع أن يكون سهلاً، ولا يُمكن لكلمات الوداع أن تكون خالية من العواطف المتناقضة، ولا يُمكن لإحساسك أن يكون بريئاً من مزيجٍ غير مُتناسقٍ من اللّهفة إلى البقاء ومن الشوق إلى الرحيل.. لندن التي عرفتُها طالباً وزائراً وسائحاً ومُقيماً، حتى ليُخيّل إليّ أحياناً أنها بدورها عرفتني، إلا أن لندن لا تعرف أحداً! حسناً، أحمل معي “لندني” الصغيرة، أُخفيها بحيث لا يراها أحد، وألتفتُ إلى لندن الكبيرة، وشفتي العُليا جامدةً، وِفقاً لتقاليد الامبراطورية، وأقول ببرودٍ إنجليزيّ، تتسلّل إليه رغماً عني وعنه، جمرةٌ من دفء الشرق: “وداعاً لندن! أعني إلى اللقاء! أعني ..”! لقد وجدتْ عاصمة الضباب طريقها إلى العنوان في كتابين لأبي سُهيل؛ أحدهما ديوان شِعر: “قراءة في وجه لندن”، والآخر مجموعة مقالات: “باي باي لندن”.. وهي إذ تبدو في شِعره جميلة كوجه الحبيب، لكن جمالها يكتسي بالحُزن، ويتغضّن لروع يوم الفراق,, يقول غازي في إحدى قصائده: “وجه لندن واجمٌ .. تكسوه حبّاتُ المطرْ وجهُها .. وجهُ حبيبٍ راعهُ يوم الفراق فتغضّن وهو يجتازُ تعابير الكدرْ”. XXXXXXXXXXXXX عندما أصل لندن في الشتاء، يستقبلني الصقيع، فأقول: “فلتكُن ليلة شتوية أقضيها قُرب الموقد”.. وجاءت الساعة السابعة ثم الثامنة والتاسعة والعاشرة ولم تُظلِم السماء، وهُنا أدركتُ أن العتمة لا تسود هُنا قبل الحادية عشرة، فيما يُدعى مجازاً بالصيف، وأدركتُ معنى “سِِحر الشرق” بالنسبة للإنجليز، وليل الصحراء الذي لم يُصبه عفن هباب المداخن -بدفئه وقمره-، يُشكّل عنصراً أساسياً من عناصر ذلك السحر. “طقسٌ جميل، أليس كذلك”؟ واجتاز صوتي أكداس الثياب التي تكوّمتُ تحتها، ليُجيب: “أجل، طقسٌ جميل”. وكان المطر ما يزال يهطل منذ الليلة الماضية، وحُبيبات الجليد ما تزال مُتجمّدة على نوافذ القطار، وقبل لحظات أعلن المُذيع أن درجة الحرارة هي تحت الصّفر بعددٍ لا بأس به من الدرجات. “طقسٌ جميل”، هي عبارة التحية التقليدية التي يبدأ بها الإنجليزي شخصاً آخر في لحظات الودّ النادرة، لأنها وحدها تفُكّ طلسم الصمت الذي يُغلّف كلّ فردٍ، بحُكم انعزاله التّام عن أيّ فردٍ آخر، ويتبعها حديث مجّاني طويل. لكن الغريب عن البلاد، مهما طالت إقامته، لا يُمكن له أن يألف هذه التحية، خصوصاً إذا كان قادماً من بلادٍ شمسها الحادّة وحدها تطهو طعامه! “بريطانيا” لم تعُد إمبراطورية، لكن كلّ ما فيها من مؤسّسات وتقاليد، وحتى من سياسة خارجية، ما يزال موروثاً من تلك النظرة الاستعمارية العتيقة.. جيل الملكة “فيكتوريا” ما يزال يُمارسها بحُكم العادة، والعجز عن مواجهة الواقع الجديد. “المتحف البريطاني” شاسعٌ ويضمّ كلّ شيء، فيه الكنوز كلّها، التي نهبتها بريطانيا من الشعوب الأخرى على طول تاريخها.. فيه مومياءات من مصر، وتماثيل وكتابات فرعونية، وفيه آثار بابلية وإغريقية ورومانية وعربية وفارسية وإفريقية! لم يُدهشني جمال ماسة من أكبر ماسات العالم، واسمها “نجمة الهند”، لأنني كنتُ أُفكّر: ما الذي جاء بها من الهند لتكون جوهرة من جواهر التاج!؟ مسلّة “كليوباترا” الفرعونية الرائعة، المسروقة من مصر، والمنصوبة على شاطيء نهر “التايمز” في أجمل مواقعه.. حينما بدأتُ أقرأ ما كُتب على قاعدته: “هديّة من الخديوي”! استيقظ في نفسي تاريخٌ من النهب والاستغلال الاستعماري. إن زُجاجات الحليب التي تُترك أمام المنازل كلّ صباحٍ دون أن تمتدّ يدٌ لسرقتها، دلالةٌ على أن لا أحد يموت في لندن جوعاً إلى الخبز والحليب. والحفلات والعروض اليومية المختلفة والمجانية في الهواء الطلق، والحدائق والبحيرات والفرح، وحتى جُدران حديقة “الهايد بارك” الخارجية تُغطّي أسوارها اللوحات كلّ أسبوع، كلَها تدلّ على أن لا أحد يموت من الملل والجوع الفكري. ولكن يبقى الوجه الآخر للحرية والديمقراطية؛ وهو اعتبار كلّ هذه المكاسب حقّاً للإنسانية كلّها من دون تمييز، وذلك لا يتم إلا حين تتخلّى بريطانيا عن نظرتها التقليدية إلى الشعوب الأخرى، والتي تتحكّم فيها عُقدة الاستعمار الذي غابت شمسه عن الإمبراطورية التي كانت يوماً لا تغيب عنها الشمس.