بين ياقوت والطناحي.

 قضيت وقتا ممتعا مع العلامة محمود الطناحي، رحمه الله، أتصفح عددا من مقالاته، وغالبها في التحقيق والتراجم، وقد رصد فيها ملحوظات نافعة لقارئ التراث العربي في المشرق والمغرب، كما طرح رأيا مهما في ضرورة العودة إلى طريقة الأوائل في التعليم حفاظا على العربية ومكانتها من العلم والتعلّم. وفي تجوالي معه لفتني، وهو المحقق والمحرر،  وصفه الوجود الأموي في بلاد المغرب بالاستيلاء، وكأنه جرى في هذا على سنة المؤرخين في التساهل في مثل هذه العبارات غير الدقيقة؛ ففي نظري لم تكن الدولة الأموية في المغرب منذ الفتح مستولية بل كانت ولاية وحكما إسلاميا في ظل الاستقرار والازدهار. وقد رصد رحمه الله هذا الازدهار العلمي في مقالة ثربة ونافعة تمحورت حول علاقة المغرب بالمشرق والتداول الحضاري بينهما من حيث مركز الإشعاع والسيادة. وأحسب أن وصفه للوجود الأموي في المغرب  بالاستيلاء وهمٌ تابع فيه ياقوت الحموي، وجرى فيه على سنن المؤرخين في عدم تحرير العبارة. ولست أعلم على اليقين عن موقف ياقوت الحموي من الأمويين، لكني لمست في عبارته ما يوحي بالغض منهم، مما يعزز أن هذه العبارة لم تكن جرّة قلم ولا وهما، كما هو عند الطناحي، بقدر ما توحي بموقف من بني أمية.  هذا مابدا لي من عبارة ياقوت وهجست به؛ فعبارته مشعرة بذلك، حيث يقول، في سياق ترجمة أبي الفرج الأصفهاني صاحب كتاب الأغاني:» وله بعد تصانيف جياد فيما بلغني كان يصنّفها ويرسلها إلى المستولين على بلاد المغرب من بني أمية، وكانوا يحسنون جائزته». فهذا التعبير مشعر بالانتقاص والتهوين، هكذا: «المستولين على بلاد المغرب من بني أمية» ففيه غير وصفه بالاستيلاء إعراض ظاهر بضمير الغائب والنسبة إليهم على هذه الصيغة. يظهر ذلك من خلال مقارنته بتعبير الطناحي، في قوله:» وقد كان لاستيلاء بني أمية على بلاد المغرب بعد ذهاب دولتهم في المشرق أثر كبير في إذكاء روح العربية بتلك البلاد»، فسياق الطناحي ينتهي بوصف مشعر بالمدح، خلافا لياقوت، لكن يبدو أن  تأثير عبارة ياقوت التي أوردها في أثناء حديثه عن التراث العربي في المغرب هي ما دعاه إلى هذا التعبير وفي نظري أن التعبير بالاستيلاء في سياق كهذا تعبير غير دقيق، حتى مع عدم إرادة معناه، أو مع جواز التعبير به في وصف تعاقب الدول والممالك؛، لأن الاستيلاء لا ينسجم مع الفتح الإسلامي ولا مع الوجود الأموي في المغرب والأندلس. نعم يصح في حالة  ما إذا كان الأمر متعلقا بالقبائل التي تحكمها العرقية الصرفة، أو كان في انتزاع السلطة بالقهر والغلبة بين متخاصمين من ملة واحدة، ولكن ليس فيما يخص الولاية الإسلامية كما هو الشأن في الحكم الأموي في المغرب. هذا ما بدا لي من ظلال العبارة وهو ليس أكثر من استدراك خطر في  معرض القراءة العابرة، يحتمل الصواب والخطأ، ولا ينقص من قدر العالمين الجليلين، بل يعزز من مكانتهما في العلم والتحقيق والتراجم.