
حظي معرض المدينة المنورة للكتاب 2025 بإقبال لافت من المثقفين ومحبي الكتب، الذين عبّروا عن تقديرهم للبرنامج الثقافي المصاحب، فرغم قلة فعالياته مقارنة ببعض المعارض الأخرى، إلا أنه تميّز بالطرح الهادف، وترك بصمة واضحة في ذاكرة الزوّار. وقدّم البرنامج محتوى متنوعًا جمع بين الندوات الفكرية، والتجارب الإنسانية الملهمة، وورش العمل التي ناقشت قضايا الأدب والنشر والهوية الثقافية، ما جعله محل اشادة وموضع تقدير مثقفين وزوار. وحرصت «هيئة الأدب والنشر والترجمة» على أن تكون الفعاليات انتقائية وثريّة، تجمع بين الطرح الفكري، والتجارب الإنسانية الملهمة، والحوارات المعرفية التي تمسّ وجدان القارئ، الذكاء الاصطناعي: أفق جديد في إنتاج المعرفة وحماية البيانات. أكدت الجلسة التي أدارتها الأستاذة نوف السناني على أن الذكاء الاصطناعي أصبح أداة محورية في تطوير التعليم والمعرفة، عبر تقديم محتوى متعدد الوسائط يشمل الكتب الصوتية والمرئية والمترجمة لحظيًا، ما يتيح ثراء معرفيًا متنوعًا ومتعدد الأبعاد. وافتتحت الجلسة بالتأكيد على ضرورة تطوير تقنيات متخصصة في التنبؤ والتعلم العميق لتعزيز الأمن السيبراني وحماية البيانات العلمية، مشيدة بالدور الذي تلعبه هيئة الأدب والنشر والترجمة في دعم هذه الحوارات المتقدمة. ومن جانبه، أوضح المهندس ناهض الحربي أن الذكاء الاصطناعي، رغم تطوره الكبير، لا يحل محل الإنسان، بل يعمل كمساعد ذكي يسرع الإنتاج ويسهل المهام. ورسم صورة مستقبلية للكتاب الذي سيتحول إلى أشكال متعددة تلائم المتلقي العصري، تتجاوز الورق التقليدي إلى وسائل تكنولوجية حديثة. أما الدكتورة نهى الطياش فركزت على أهمية العمل البشري عالي الجودة في ظل الذكاء الاصطناعي، مشددة على أن الابتكار الحقيقي يبقى حكرًا على العقل البشري، وأن الأطفال في حاجة ماسة إلى التفاعل المباشر مع الكتاب الورقي لتنمية خيالهم ومهاراتهم. وأكدت على أن أدوات الذكاء الاصطناعي يجب أن تبقى وسائل مساعدة، دون التفريط بدور المفكرين والمبدعين في صياغة الأفكار والتساؤلات. نقوش تحكي الإنسان. قدمت الباحثة سارة الدوسري في ورشة «نقوش تتكلم عن أمم عبرت» قراءة تحليلية للنقوش الصخرية التي وثقت تحولات الإنسان والبيئة في الجزيرة العربية منذ العصر الحجري الحديث. واستعرضت دور النقوش كوثائق حية تحكي قصص الهجرة، والصيد، والزراعة، والحياة اليومية، مسلطة الضوء على تأثير المناخ في تحركات السكان وتوسع الاستيطان. وشرحت الدوسري كيف أن الأدوات الحجرية المصقولة مثل الفؤوس والمناجل ساعدت المجتمعات على الانتقال من الترحال إلى الاستقرار النسبي، وبناء المساكن، واستغلال الموارد الطبيعية كما أشارت إلى أنماط التنقل الموسمي التي ساعد الإنسان القديم على التكيف مع التحولات المناخية، والتنقل بين الأودية والمرتفعات. وتطرقت الورشة إلى تفصيلات حول الهيئة الجسدية للإنسان في تلك العصور، ملابسهم، والحيوانات التي عاصرها الإنسان، والتي تم تصويرها بدقة في النقوش، مما يعكس حسًا فنيًا وعلميًا في آن واحد. وأبرزت الباحثة كثافة السكن قرب مصادر المياه القديمة، وأهمية شبكة الأنهار التي كانت في قلب الجزيرة، التي شكلت محور الهجرات البشرية. واختتمت الورشة بالحديث عن أسلوب «جُبّة» في النقوش، كأحد أقدم أساليب التعبير الفني في شبه الجزيرة العربية، وهو أسلوب له دلالة أنثروبولوجية وثقافية عميقة تتيح تتبع تحولات الوعي والثقافة عبر آلاف السنين. عمران المدينة المنورة وحصانتها بالطبيعة والتاريخ. استعرض الدكتور فؤاد المغامسي في ندوة بعنوان «تحصينات المدينة بين العمارة والتاريخ» طبيعة عمران المدينة المنورة التي تشكلت عبر تحصينات طبيعية وعمرانية فريدة، منها الجبال مثل أحد وعير وسلع التي شكلت حصانة جغرافية جعلتها منيعة ضد الغزوات. وذكر المغامسي أن المدينة كانت في الأصل عدة قرى متفرقة، منها قباء وسالم بن عوف، واتحدت بقدوم النبي محمد صلى الله عليه وسلم في تخطيط عمراني متكامل يشبه قرص الشمس، يحمل في داخله رمزية روحية وعمرانية عميقة. كما تحدث عن الأسواق القديمة، القلاع، ونظام «الأحوشة» في التخطيط الدفاعي، معززا فكرة أن عمران المدينة ليس فقط بناء مادي، بل ذاكرة حية تُورث عبر الأجيال، وتحفظ هوية المدينة الروحية والتاريخية. فلسفة التأمل واللعب خارج الحقول الأكاديمية قدم الدكتور عبدالله الهميلي في ندوته التي أدارها الإعلامي هاشم الجحدلي ورقة فلسفية بعنوان «الفلسفة ساحة لعب خارج الحقول» أشار فيها إلى أن الفلسفة ليست علمًا جامدًا، بل هي مجال مرن يتغلغل في تفاصيل الحياة اليومية، ويعيد صياغة الأسئلة الكبرى حول الوجود والذات. وربط الهميلي أصل الفلسفة اليونانية بالشعر والفعل الفني، مؤكدًا على أهمية التجربة الإنسانية الحية في تعميق الفهم الفلسفي، من خلال أمثلة مثل ضحكة الطفل التي تعبر عن لحظة نقاء خالية من الحسابات. كما أكد على دور الفلسفة في مجاراة التطور العلمي، وتحولاتها المعرفية، وضرورة تأسيس رؤية أخلاقية قائمة على الحوار مع الحياة اليومية، بعيدًا عن الجمود النظري. أمسيات شعرية تحلق بالوجدان. أحيا الشاعران علي الحازمي وحوراء الهميلي أمسية شعرية، قُدمت فيها قصائد تنسج بين الحميمية والتأمل الوجداني، مستعرضة مكامن الحنين والذات، والنصوص تنوعت بين النبرة الصوفية في كتابات الهميلي، والتأمل الوجودي في شعر الحازمي، مما أضفى أجواءً من التفاعل الحميمي مع الجمهور. وفي أمسية أخرى، شارك ثلاثة من الشعراء: حسن الزهراني، وزاهد القرشي، ويوسف الرحيلي، الذين قدموا باقات شعرية متنوعة تراوحت بين الغزل والتأمل الاجتماعي والوجداني، مع إهداءات مؤثرة وشهادات امتنان لدعم هيئة الأدب والنشر والترجمة. اللعب بوابة التعلم. قدمت الأستاذة منيرة القحطاني ورشة عمل بعنوان «اللعب بوابة التعلم.. كيف نعلّم الأطفال دون أن يشعروا؟ حيث عرضت أهمية اللعب كمدخل فعال لتطوير مهارات الطفل الجسدية، والمعرفية، والاجتماعية، والعاطفية. ووضحت القحطاني كيف يُعيد اللعب تعريف التعليم ليصبح تجربة ممتعة، من خلال ألعاب تفاعلية تحفز الفضول العلمي، وتعزز التعاون، وحل المشكلات، وتنمي التفكير النقدي والإبداعي، معددةً أنواع الألعاب الحركية والجماعية والتمثيلية والبنائية التي تسهم في تنمية مهارات متعددة للأطفال.. عبقرية المتنبي وبلاغة الجرجاني. أستضاف كتاب المدينة وضمن برنامجه الثقافي ندوة من تنظيم مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية بعنوان «قراءة في شرح ديوان المتنبي للإمام عبدالقاهر الجرجاني» تناول أكاديميون فيها شرح الجرجاني لقصائد المتنبي، مركزين على الأبعاد البلاغية والفكرية للنص، ومدى تأثيره على دراسة الأدب العربي. وأكد الدكتور عبدالرحمن المطرفي أن الكتاب يمثل علامة فارقة في التأويل البلاغي، ويقدم مدلولات فلسفية لغوية عميقة، بينما أشار الدكتور محمد راشد الصبحي إلى ثراء شعر المتنبي في موضوعاته وأسلوبه، في حين تناول الدكتور محمد هادي المباركي تعدد الشروح عبر العصور رغم ضياع بعضها، ملفةً إلى المكانة المتجددة للمتنبي في الوعي العربي. معايير التمييز بين المعلومة والمعرفة. قدّمت الرائدة في مجال القراءة ريم الجوفي ورشة عمل بعنوان «التمييز بين المعلومة والمعرفة في عالم رقمي» سلّطت فيها الضوء على الفرق بين المعلومة بوصفها بيانات خام، والمعرفة بوصفها حصيلة فهم وربط بالسياق والخبرة. وأوضحت الجوفي أن تسارع تدفق المعلومات عبر المنصات الرقمية يستدعي وعيًا رقميًا نقديًا يمكّن الأفراد من التحقق من المصادر وتحويل المعلومات إلى معرفة مفيدة، متناولةً بالشرح عدد من المبادرات التي تعزّز التعامل الواعي مع المحتوى الرقمي، انسجامًا مع أهداف رؤية المملكة 2030 نحو بناء مجتمع معرفي. سلطة اللغة وموقع المتلقي في النص الشعري. ناقش الباحث علي عكور في هذه الندوة التي أدارها الكاتب والروائي علي الأمير دور اللغة في إنتاج المعنى داخل النص الشعري، مؤكدًا أن اللغة تمتلك سلطة تتجاوز الشاعر لتشمل المتلقي، الذي يساهم في توسيع دلالات النص وتأويله. وبيّن الفرق بين اللغة الشعرية، التي تعتمد على المجاز والانزياح لخلق الأثر، واللغة اليومية التي تقوم على الوضوح والتواصل المباشر، محذرًا من خطر أن تحل الوسائط الصوتية أو البصرية محل النص إذا لم تكن اللغة قوية ومتينة. رحلة من الظلام إلى البصيرة. تناول تجربة الأستاذ محمد توفيق بلو مع فقدان البصر والتحول العميق في مسار حياته، مبتدئًا تناوله بتشخيص إصابته في عام 1983م بمرض التهاب الشبكية الصباغي الوراثي، الذي تسبب بفقدان تدريجي للبصر حتى وصل إلى مرحلة الهلوسة البصرية، حيث يستحضر العقل صورًا وهمية نتيجة لانعدام الإشارات البصرية. بعد التقاعد المبكر من عمله في الخطوط السعودية، انتقل إلى ولاية مينيسوتا الأمريكية عام 1996م، وهناك التحق ببرنامج لإعادة التأهيل البصري، كانت بدايته في رحلة الاكتشاف الذاتي والكتابة. ومما ذكره أن أطلق عليه الإعلامي الراحل محمد صادق دياب لقب «المؤلف» خلال ظهوره في برنامج على قناة ART عام 1996م، قبل أن يكتب أي عمل، ما حفّزه لإصدار أول كتبه «حصاد الظلام» عام 2002م، ثم ألحقه بكتاب عن جده الأديب طاهر زمخشري عام 2005م. عاد «بلو» بقوة إلى النشر عام 2016م بعد انشغاله «بجمعية إبصار الخيرية» وأسّس دار نشر خاصة، وأصدر سلسلة «رحلتي عبر السنين» وكتبًا توثّق سيرة جده الشاعر طاهر زمخشري، وآخرها كتاب «سطور مضيئة معهم. بلغ عدد مؤلفاته ثمانية كتب، إلى جانب تحريره كتبًا لمؤلفين جدد وتقديم 16 إصدارًا لمواهب واعدة، وأفاد «رحلتي من الظلام إلى البصيرة هي إدراك داخلي يتجاوز الحواس.» جسر للمعرفة حرصًا على تعميم المعرفة، خصص المعرض قسمًا للكتب بأسعار مخفضة تناسب مختلف شرائح الزوار، مع إصدارات في مجالات الأدب، والتاريخ، والعلوم، والتنمية الذاتية، وكتب الأطفال، باللغتين العربية والإنجليزية، وجاء هذا القسم ليدعم ثقافة اقتناء الكتاب، ويعزز حضور الكتاب الورقي في عصر التحول الرقمي. أشياء لا تُرى تناول الشعشعي خلالها البُعد الفلسفي للعمل الفني، مؤكدًا أن الفن ليس مجرد شكل مرئي، بل تجربة داخلية تنبض بمعانٍ خفية. وأشار إلى أن الفراغ والصمت داخل العمل قد يحملان دلالات تفوق الألوان والخطوط. ثنائية المرئي واللامرئي، ودعا الحضور إلى التأمل في الأثر أكثر من الشكل. كما تطرّق إلى تجربته في إدارة مركز المدينة للفنون، الذي يُعد منصة لاحتضان المواهب الشابة، ومبادرة فاعلة ضمن رؤية المملكة 2030. تجربة متكاملة للأطفال. ضمن فعالياته المتنوعة، خصص معرض المدينة المنورة للكتاب 2025 منطقةً تفاعلية للأطفال تضم 6 أركان رئيسة تقدم أنشطة تعليمية وتطبيقية تُنمّي التفكير وتعزّز القيم، إلى جانب مسرح «اليوقي» الذي يقدّم عروضًا قصصية وتمثيلية ترفيهية. كما تشمل المنطقة مساحتين مخصصتين لراحة الأطفال واليافعين، في بيئة آمنة وجاذبة. ويهدف المعرض من خلال هذه المساحة إلى تقديم تجربة ثقافية وترفيهية متكاملة تُرسّخ حب القراءة وتُقرّب الطفل من عالم الأدب.