
أشير بهذا العنوان إلى ظاهرة طالما أدهشتني، أقصد ظاهرة النساء اللاتي شغلن بدراسة الشرق العربي الإسلامي وترجمن عنه، النساء المستشرقات اللاتي وجدت أنّ وصفهنّ بـ “عاشقات الشرق” ليس من المبالغة من منطلق أنّ علاقتهنبالعالم الإسلامي عموماً والعربي على وجه الخصوص علاقة اتسمت في مجملها بالحميمية القريبة من العشق والتي دفعتهن إلى اتخاذ مواقف ليست من السمات البارزة في علاقة الاستشراق الذكوري بهذا الجزء من العالم (أقول في مجملها لأنّ العلاقة لا تخلو من بعض علامات استفهام). في قلب مدينة حائل، وعلى تخوم التاريخ، يقف حيّ “لبدة” شاهدًا على إرث علمي وثقافي امتد لأكثر من قرنين. لم يكن هذا الحيّ مجرد تجمع سكني قديم، بل كان منبعًا للمعرفة، ومنارةً للعلم، ومأوىً لعلماء ومشايخ نذروا أعمارهم لنشر التعليم، والعناية بالكتاب والمكتبات. ويأتي هذا الملف ليسلط الضوء على حيّ لبدة، لا بوصفه أطلالًا من طين، بل باعتباره رمزًا حيًا لحراك علمي وثقافي تشكل مبكرًا وأسهم في رسم ملامح النهضة المعرفية في شمال المملكة. فلبدة ليست مجرد حيّ.. إنه قصة مدينة بأكملها أكثر من 250 عاماً يوصف الحي بأنه حي العلماء والمشايخ وهو يقع في الجزء الشرقي من المدينة بالقرب من المنطقة المركزية. الحي يرجع تاريخه لأكثر من 250 عاماً، ولم يتبق من المنازل العتيقة في الحي سوى بعض أطلال المباني التراثية، وبعض المنازل التي تمت المحافظة عليها من ملاكها لتحكي لنا الماضي العريق. ولهذا الحي قصص وحكايات، وتم تسميته بالحي الثقافي، لأنه تميز بازدهار الحركة العلمية فيه قبل أكثر من قرنين بما يجسد الإرث الحضاري والثقافي. اشتهر حي لبده بالمنازل الطينية ذات الطابع العمراني الفريد والنقوش الزخرفية، والحيٌّ عامر بالأبنية الطينية التراثية التي تمتاز مجالسها بنقوش وزخارف جصية فريدة، ويزين الجدران الخط العربي خط الثلث ونقوش معمارية جميلة، وهو يضم أنواعا من فن العمارة وبلمسات حرفيي المنطقة. وقد عرف عن المعمار المحلي بحائل اهتمامه بمجالس الرجال في الزينة والرسوم وجعل مدخل الرجال في بيوت الطين مرتفعا عن مستوى بيت الطين وهذه ميزة لاستقبال الضيوف ولكي يعرف الضيف مدخل الرجال. مكتبات لبدة الخاصة: أمهات الكتب في قلب حائل في قلب مدينة حائل، وتحديدًا في حارة لبدة العريقة، ازدهرت مكتبات خاصة شكلت ملامح الوعي الثقافي والعلمي في المنطقة، وكانت حاضنةً لأمهات الكتب ومن هذه المكتبات التي ما زال أثرها قائمًا حتى اليوم: مكتبة اليعقوب: أنشأها الشيخ محمد بن سعد، والد الشيخ يعقوب وكانت من أوائل المكتبات الخاصة في حائل. وقد أُهديت هذه المكتبة لاحقًا إلى المعهد العلمي بحائل. وذكر الدكتور عبدالله العثيمين أن من بين الكتب التي كانت تضمها المكتبة، كتاب مختصر الجامع الصغير. مكتبة الشيخ عوض الحجي: وقد انتقل جزء كبير من محتوياتها إلى مكتبة الشيخ علي الصالح. ومن المكتبات مكتبة الشيخ سالم الحجي، ومكتبة العطية: وأسسها الشيخ عطية السليمان، ثم انتقلت إلى ابنه الشيخ سليمان العطية ، ومكتبة الشيخ حسن الحجي، ومكتبة الشيخ المهوس، وتُعد من أكبر المكتبات في حائل، وقد أنشأها الشيخ عيسى المهوس، وضمّت أكثر من عشرة آلاف كتاب. وقد انتقلت لاحقًا إلى الشيخ عبدالله بن بليهد، واحتوت على كنوز معرفية شاملة في مختلف فنون العلم، مكتبة الصالح: أسسها الشيخ صالح السالم ، ثم ورثها عنه وزاد فيها الشيخ علي الصالح، وتُعد من أشهر المكتبات الخاصة في حائل، إذ ضمّت أمهات الكتب والمخطوطات النادرة، ومنها تفسير الإمام محمد بن جرير الطبري مخطوط سنة 1311 هـ.، وقد كُتبت بعض أجزائه بخط الشيخ عبدالرحمن بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل الشيخ، وبعضها بخط الشيخ سليمان بن سمحان، وأخرى بخط الشيخ عبدالعزيز بن صالح الصرامي. وتُعد هذه النسخة من التفاسير الوحيدة التي طُبع عنها تفسير ابن جرير. ولا تزال المكتبة محفوظة ويشرف عليها الأبناء: سعود وعبدالرحمن وإخوانهم. أما مكتبة الشيخ حمود الحسين الشغدلي: فهي من أضخم المكتبات في المنطقة، إذ تضم أمهات الكتب والمخطوطات النادرة، وقد فتحها أبناؤه للباحثين والدارسين، ولا تزال تحتفظ بقيمتها التاريخية والعلمية في حي لبدة. وأخيرا، مكتبة العريفي: أنشأها الشيخ عبد العزيز بن سليمان العريفي في مدينة حائل وكان له عناية واحتفاء بالكتب وأوقف عدداً منها على الشيخ صالح السالم وما تزال محفوظة في مكتبته الخاصة بحائل. ومن أبرز المخطوطات النادرة في مكتبة العريفي كتاب (كشاف القناع عن متن الإقناع) بخط مصنفه الشيخ منصور بن يونس البهوتي المتوفى سنة 1051 هجرية. وقد ورث محتويات المكتبة ابنه الشيخ على بن عبد العزيز العريفي والد الشيخ فهد العلي العريفي الذي كانت تراوده فكرة فتح المكتبة للدارسين والباحثين في مدينة حائل وقد حقق له ابنه أحمد هذا الحلم وفتح مكتبة فهد العريفي في أحد أحياء حائل. وتحتوي المكتبة على أمهات الكتب والمخطوطات. ويقول أحمد مؤسس المكتبة انها تضم كتباً مطبوعة وصور مخطوطات وصور وثائق مختارة وتسجيلات صوتية وصوراً فوتوغرافية لحائل ورجالاتها، وأنها مفتوحة لعموم الباحثين والمهتمين. رموز التعليم في المدينة في عام 1307هـ، زار الشيخ العلامة الإمام عبدالله بن عبد اللطيف آل الشيخ مدينة حائل، ومكث فيها للتدريس ونشر العلم. ومن الأسماء البارزة في المشهد العلمي بحائل آنذاك: عبدالله بن سليمان بن محمد بن عبيد، مبارك بن عواد، جارالله الحماد، صالح الناصر الشاعر، صالح سليمان القريشي، سليمان مبارك الشاعر، حمد أبو عرف، وقد كان من أبرز مظاهر العناية بالعلم ووسائطه في ذلك الزمن، نشاط النساخ من أبناء حائل، وقد ذكر الشيخ علي الهندي في كتابه عددًا من أبرز هؤلاء النساخ، منهم: سالم الشلش. وشكر الحسين. و ناصر الهويد، وعلي الأحمد. أما من كان ينسخ الوثائق القديمة، فكان في مقدمتهم الشيخ عوض الحجي، والشيخ علي الصالح. ورغم هذا الإرث الزاخر، تغيب دور النشر وجهات الاختصاص عن تبنّي تراث السلف العلمي في حائل، سواء من حيث الترميم أو التحقيق أو إعادة النشر. ولذلك يطرح هذا النص تساؤلًا مستحقًا: لماذا لا تتجه الجامعات السعودية إلى تبنّي هذا الإرث الثقافي الكبير؟ فمخطوطات حائل ليست فقط صفحات من الماضي، بل هي مخزون معرفي وتربوي وفكري يحمل مبادئ سامية، يستحق أن يُقدّم برؤية عصرية، عبر وسائط رقمية وتطبيقات تعليمية جديدة تتيح للباحث والقارئ التفاعل معه والنهل من مضمونه. وقد عرفت المكتبات قديمًا بمسميات تعبّر عن مكانتها، مثل: خزانة الكتب، وبيت الحكمة، ودار العلم، ودار الكتب. المدارس وكتاتيب النساء ومع تزايد الوعي بالتعليم في حائل، افتتح الشيخ سليمان السكيت عام 1353هـ أول مدرسة جمعت بين تعليم القراءة والكتابة وبين التاريخ، واللغة العربية، والحساب، وتعليم الخط، وأطلق عليها اسم “مدرسة سبيل الرشاد”، وتخرج منها عدد كبير من شباب المدينة. وكان طلبة العلم يتلقون دروسهم في حلقات العلماء داخل المدينة، ومن أبرز هؤلاء العلماء: صالح بن سالم البنيان، عبدالله بن مرعي، عثمان العبدالكريم العبيداء، حمود بن حسين الشغدلي، عبدالرحمن بن سليمان الملق، عبدالله الخليفي، الشيخ عبدالله بن بليهد، عبدالله المهوس، اسليمان العطية، علي الصالح، عبدالعزيز بن صالح النزهة، صالح بن محمد الزريقي، يوسف اليعقوب، عمر اليعقوب، عبدالله بن عبدالرحمن الملق، إبراهيم المبرك. أما تعليم البنات، فقد كان يتم من خلال الكتاتيب النسائية، ومن أشهرها: كتّاب هيلة في حي لبدة، كتّاب بنت هيلة (نورة) في حي العليا، كتّاب هيا بنت صالح الناصر الشاعر، كتّاب فاطمة الغازي في حارة سرحة، كتّاب فاطمة الدرسوني، وكتّاب نورة محمد الصوينع. وقد بدأ التعليم في حائل في وقت مبكر جدًا، رغم الصعوبات التي واجهها المعلمون في إقناع أولياء الأمور بأهمية إرسال أبنائهم للكتاتيب، إذ كان الانشغال بالحقل والمتجر غالبًا ما يطغى على فكرة التعلّم. لكن تلك البدايات أسست لقاعدة صلبة، حتى جاء التعليم النظامي عام 1356هـ، مع افتتاح المدرسة السعودية بأمر من الملك عبدالعزيز الذي أدرك أهمية الجهود السابقة للمشايخ، فأمر بتكاملها في إطار رسمي. وقد تولى إدارتها الأستاذ عبد الخالق عامر، مصري الجنسية، وكانت تقع في حي العليا، وتُعد من أوائل المدارس النظامية في نجد. بعض رجالات لبدة وأعيانها ومن أبرز رجالات حي لبدة وأعيانها الذين كان لهم أثر بارز في مسيرة العلم والدولة والمجتمع: رشيد الليلا: هو رشيد بن ناصر بن رشيد بن سالم بن ليلا، ولد بحائل وبها تعلم، حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة، كما حفظ أجزاء من صحيح البخاري، ودرس على عدد من علماء حائل، منهم أخوه لأمه الشيخ صالح السالم. تميز بالفطنة والذكاء الحاد والذاكرة، واعتُمد عليه في المهمات وحل الإشكالات. وأصبح رشيد بن ليلا أحد رجالات الملك عبدالعزيز، وواحدا من أهم وأبرز رجاله المخلصين. ورشيد بن ناصر بن ليلا يعد شاهداً على سياسة الملك عبدالعزيز في استصلاح البلاد، والحكمة في العمل الدبلوماسي. ولد رشيد في حائل في حي لبدة عام 1294 هــ وتعلم مبكراً في الكتاتيب وظهرت عليه ملامح الفطنة والذكاء وقوة الذاكرة، وفي عام 1897 م نشط في مجال تجارة الأسـلحـة وذاع صيته بين الراغبين في تجارة السـلاح في نجد والعراق والخليج العربي وعلم الملك عبدالعزيز بمزايا رشيد الليلا وإخلاصه ووفائه، فوجه له الدعوة للعودة إلى المملكة واستقبله في جدة عام 1349هـ/ 1930م ثم عينه عضواً في مجلس الشورى في دورته الثالثة، حيث حضر فيه أول جلسة في 13 رجب 1349هـ/ 4 ديسمبر 1930م، واستمر في عمله الدبلوماسي. الشيخ حمود الحسين: انتشر صيته على مستوى المملكة، ولد في حائل سنة 1295هـ، كان أكثر انفتاحاً على العلوم، فسافر ودَرَسَ في الجامع الأزهر، ولا يزال اسم الشيخ الحسين موجودا في سجلات الجامع الأزهر. وفي مناسبة فتح الحجاز في 20 جمادى الآخرة 1344هـ رفع الشيخ الحسين إلى جلالة الملك عبد العزيز قصيدة مكونة من واحد وثلاثين بيتاً من الشعر الخماسي مطلعها: شموس سعود أشرقت إذ سمت نجد وأقشع ليل الظلم لما بدا السعد عبد العزيز بن حمود بن زيد: من رجالات الحي السفير عبد العزيز بن حمود بن زيد الدبلوماسي الشهير في فترة الثلاثينيات إلى الخمسينات، حيث تولى الملف الحدودي السعودي مع حكومة الأردن وكان وزيرًا مفوضًا وسفيرًا لدى سوريا ولبنان ولد في حائل سنة 1315 وكان والده أميرًا على مدينة الجوف. عينه الملك عبد العزيز مندوبًا له في عمان والقدس ثم تنقل بعدها بعدد كبير من المهام والمناصب ومنها: عضو في مجلس الشورى، مساعد لقائم مقام جدة، قائم مقام مدينة الطائف، مفتش ومفاوض للحدود الشمالية، منتدب لحل المشاكل العشائرية مع منتدبي حكومة عبر الأردن، وأمير على مدينة القريات، وقنصل عام في سوريا ولبنان ثم مفوض ومندوب فوق العادة وسفير في دمشق وبيروت. فهد العلي العريفي: وهو الذي كتب عن لبدة في كتابه «حائل» الذي صدر ضمن سلسلة هذه بلادنا والشيخ العريفي، أطلق عليه لقب (ثالث الجبلين). كان أديبا وصحفيا من الطراز الأول، عرف قلمه بأنه يقيس نبض الناس واحتياجاتهم. والده علي بن عبد العزيز العريفي مدير الزراعة الأسبق في حائل، أما الجد من الأب فهو عبد العزيز العريفي يدعى (أبو اليتامى)، كان يتربّى في بيته المحرومون من عطف الأب والأم فيعيشون في كنفه معزّزين مكرّمين يتفيّؤون ظل شجرته الوارفة، يؤمّن لهم المسكن والمأكل والملبس. أما والدته فهي (فاطمة) بنت رشيد الناصر الرشيد الليلا وجده من والدته الوجيه رشيد الناصر الرشيد الليلا. من المشهد الى حائل يقول احمد الفهد العريفي في كتابه علماء لبدة: وفي مجال العمران إن من بين الحجاج اللذين بمكثون بحائل من أجل التجارة وهم في طريقهم للحج من العراق أن بين هؤلاء القادمين من المشهد إلى حائل جماعة من أصحاب الحرف الماهرين، كعبود شكر المشهدي الذي كان يستخدم (الجص) في رسم لوحات رائعة على جدران بعض مجالس (قهاوي) حائل كقهوة إبراهيم المشاري وقهوة الدقلي في لبدة، وقهوة المجراد وقهوة الموسى السيف في سرحة. عادات أهل لبدة الأصيلة ومن العادات الكريمة التي اشتهرت بها لبدة تبرز «النايبة» وهي عادة اجتماعية نبيلة، تُمارس حين يقوم أحد السكان ببناء منزل من الطين، حيث يتناوب أهل الحي على استضافة عمال البناء لتناول طعام العشاء. ويدور هذا الدور بين الأهالي دون تكلّف أو دعوة، بل يعتبرونه واجبًا لا يُترك. ويقول سليمان العتيق في كتابه «حائل»، مشيرا إلى حارة لبده العريقة: أنه من معاني الكرم السامية والرحيمة تربية الأيتام وهم المقطوعون بوفاة والديهم. وفي لبده بيت الشيخ عبد العزيز السليمان العريفي وكذلك بيت خدام الفايز وإخوانه في بيوتهم أيتام يقيمون بينهم ويعيشون في كنفهم ويرعونهم كما يرعون أبناءهم. ويلقب الشيخ عبد العزيز العريفي أبو اليتامي ويسمى بيت الفايز بيت مربي اليتامى. بيوت لبدة لم تكن منعزلة، بل كانت الحارة تتشارك في الموارد والمرافق، من «الحيور» المفتوحة التي توفر الماء، ، ومن أبرزها: حير العميم في لبدة، وحيور السوق الشمالي والسوق القبلي، وهي شواهد على قيم الإيثار والمحبة بين الجيران. ولبدة تتوزع على ثلاث شوارع رئيسية هي السوق الغربي وجماعة مسجد الشيخ حمود الحسين الشغدلي وجماعة سوق القبلي والسوق الشمالي وحارة سرحة والعليا وعلوى وهي حدود حارة لبدة.