في محافظة القنفذة بمنطقة مكة المكرمة..

حرفة استخراج القطران من الخشب واستعمالاته.

يجئ اختيار هذا البحث في سياق اهتمام أقسام الآثار والتراث باعتماد مادة الحرف والصناعات التقليدية ضمن المقررات الدراسية المعتمدة في تلك الأقسام, وذلك لدلالاتها على الماضي من حيث الاستعانة بها في فهم الآثار الإنسانية التي تصل إلى أيدينا من الماضي السحيق. وأيضا اهتمام الدولة بها بوصفها من أهم مقومات السياحة, وما يترتب عليها من إسهامها في الدخل الوطني, وفي توفير فرص عمل جديدة ومستدامة لأبناء الوطن وبناته. ولا أدل على ذلك من تسمية المملكة العربية السعودية عام 2025م: بعام الحرف اليدوية, تلك التسمية التي تجئ مسبّباتها “ترسيخًا لمكانة الحرف اليدوية بوصفها تراثًا ثقافيًّا أصيلًا, وتعزيزًا لمزاولتها وصونها واقتنائها وتوثيق قصصها وحضورها في حياتنا المعاصرة”. وتعدّ حرفة أو صناعة القطران في قائمة الصناعات والحرف التقليدية بالمملكة العربية السعودية، وهي من الحرف القديمة التي عرفها الإنسان منذ عصور مبكرة، واستمر محافظًا عليها, ومزاولاً لها حتى عصر الناس هذا. وهي تكاد تكون معروفة في جميع مناطق المملكة العربية السعودية، ويزاولها قطاع لا بأس به من الأهالي في بعض محافظاتها. إلا أنها تختلف اختلافات طفيفة في طرائق استخراج القطران من الخشب، وفي أنواع الحطب المستخدم في ذلك، وتتفق إلى حد كبير في وظائفه، وميادين استخداماته، وفي الحاجة إليه في جوانب مختلفة من حياة المجتمعات التقليدية في المملكة العربية السعودية، بل إن الحاجة إلى القطران لا تنعدم حتى في الحياة المدنية، كما كان سائدًا بالفعل قبل حوالي ستة عقود مضت من الآن. ولعلّ من أكثر من اشتغل بممارسة هذه الحرفة أو المهنة في محافظة القنفدة – في حدود علمي – بعض فخوذ من قبيلة المقاعدة, وهي قبيلة من أرومة عربية صريحة النسب. وتُعَدّ مهنة استخلاص القطران أو القَطْرنَة من المهن الشريفة التي لا يستنكف أصحابها من القبائل العربية بالمحافظة عن ممارستها سواء في محافظة القنفدة نفسها أم في خارجها, وكانت هذه الحرفة حتى عهد ليس بالبعيد إحدى أهم سبل المعيشة للأفراد الذين يشتغلون بها, إلى جانب اشتغالهم برعي الماشية وبيعها, وبالزراعة في أراضيهم التي يمتلكونها في الخَبْت وفي الوادي. ومن فخوذهم بعض فئات من الصَّوَالحَة, والَعَواصِيْة, وقليل من جيرانهم العِذَقَة. ويسكن هؤلاء المقاعدة قرى: الحَاجِب والحَيْلَة (حَيْلَة المقاعدة) والجَبّانة, وتلك القرى الثلاث المتلاصقة التي تصطفّ في خط واحد على الضفة الجنوبية لوادي يَبَة, المقابلة لبلدة الحَبِيْل بمركز القوز في شمالي الوادي المذكور, حتى إننا حينما كنا ننظر ليلًا ونحن صغار إلى اشتعال المواقد في تلك القرى, نراها أشبه ما تكون مثالًا مصغرًا لألسنة النيران التي تتصاعد من آبار النفط بالمنطقة الشرقية. وهم – أي قبائل المقاعدة - يتبعون للشيخ المقعدي, شيخ قبيلة المقاعدة التي ذكرنا للتوّ أنها تقطن الحَبِيْل وضواحيها. وإلى جانب فخوذ قبيلة المقاعدة التي تمارس هذه الحرفة أو المهنة في محافظة القنفدة, يوجد أفراد من قبائل أخرى يمارسون المهنة نفسها في أودية أخرى من المحافظة يطول ذكرهم. وقد أخذت هذه الحرفة أو المهنة في التناقص بسبب اشتغال الأجيال المتحدّرة من أصلاب أهلها السابقين بالوظائف التعليمية, وبمهن أخرى أقل مشقة, وأوفر دخلًا من مهنة أو حرفة القَطْرَنة التي لاتزال تمارس بأسلوب تقليدي من قبل قليلين من كبار السن, معتمدين في معاونتهم على العمالة الأجنبية, خصوصًا أن هذه المهنة لم تدخل عليها أي تحسينات مقارنة بمهن أخرى جرى تحسينها, بإدخال بعض الوسائل الحديثة التي يَسَّرَت مزاولتها, وحسّنت وزادت من مردوداتها المادية, ومنها حرفة عصر السمسم, واستخراج زيته المعروف باسم السَّلِيْط على سبيل المثال لا الحصر, وهي من الحرف الرائجة في جنوب غرب المملكة العربية السعودية, ومنها محافظة القنفدة. وتقوم فكرة هذه الصناعة على نظرية التقطير الإتلافي للخشب، وتتم بحرق كميات معينة منه في أوعية خاصة بمعزل عن الهواء تسمى المواقد (جمع: موقد)، بهدف تقطيرها إتلافيًا بغية الحصول على ذلك السائل الذي نحن بصدده. ويتلخّص ذلك العمل في أن الأدخنة الناتجة عن عملية الاحتراق تتجمّع في التجويف الداخلي للموقد، ثم تجد سبيلها عبر قنوات وأنفاق تأخذها إلى أزيار, وآنية أخرى صخرية أو فخارية منصوبة تحت الأرض، حيث تتكثّف تلك الأدخنة وتتحوّل إلى سائل يُعرف باسم: القطران، وينقسم إلى قسمين هما: المُهْل، والقار، وسنأتي إلى ذكر صفة كل منهما، واستخداماته فيما بعد. ويسمى المصنع الذي تتم فيه عملية استخراج القطران باسم المُوْقَد، أو المَقْطَر، وتُعرف هذه المهنة أو الحرفة في بعض مناطق المملكة باسم التَّوْقِيِدْ أو القَطْرَنَة، ويُطلق على محترفيها اسم الوَقَّادَة، أو القَطَاريَة. ويتكوّن الموقد من تجويف تحت الأرض مغطى بصفائح كبيرة من الحجر الصَّلد، محكم الإغلاق من أعلى، إلا من فتحة صغيرة تسمح للأدخنة الناتجة عن الاحتراق بالنفاذ من خلاله إلى بطن التجويف، ومنه تفضي إلى زير كبير منصوب تحت الأرض. وللزير فتحة علوية كبير في جانبيه تُغطى بإحكام في أثناء التقطير، وتُفتح عند غَرْف القطران بعد تبريده، وله فتحة أخرى جانبية صغيرة في طرف الفتحة الجانبية الكبيرة تسمح للقطران الذي يفيض من الزير عند امتلائه، بالتحوّل إلى جُوْرَة أصغر منه تسمى “ المَطْرَفَة “، وهذه الجورة أو المطرفة لها فتحة جانبية مماثلة لتلك التي في الزير، هي بدورها تفيض بعد امتلائها إلى جورة أخرى مجاورة لها تسمى مَطْرَفَة أيضًا، وهكذا من مطرفة إلى أخرى، بحيث يصل عدد المطارف في بعض المواقد إلى ثلاث، وأربع، وخمس آخرها لا يُحْكَم إغلاقها من أعلى، بل يترك في غطائها فَلَج بسيط يسمح ببقايا الدخان والحرارة بالخروج من خلاله، ويسمى هذا الفلج مَنْسَم أو مُتَنَفّس، ومنه يتم التنسيم للموقد خوفًا من انفجاره من شدة الحرارة. ولكل مطرفة من هذه المطارف – شأنها في ذلك شأن الزير الكبير – فتحة علوية كبيرة تسمح بغَرْف المهل والقطران المتجمع فيها، وذلك بعد ان تنتهي عملية التوقيد، ويتم تبريد الموقد، وما عليه في الهواء الطلق لمدة ساعة على الأقل. وتُسمى الفتحات الجانبية لكل من الزير والمطارف والمجرى المتصل بها حتى نهايته في آخر مطرفة، باسم العَيْن، على حين تسمى الفتحة الصغيرة النافذة من بين صفائح الأحجار التي تغطي تجويف الموقد، والتي أشرنا إليها سابقًا – باسم فتحة العين. وتمثّل الأخشاب المتوافرة في البيئة المحلية المادة الخام الرئيسية التي تُستخدم في عملية صناعة القطران، وهي تتفاوت بحسب توافرها في المنطقة التي يُصنع فيها القطران، وأكثرها شيوعًا السَّمُر والأثل، فالأول أجود من حيث حرارة القطران وفاعليته التي سنأتي إلى ذكرها بعد. والثاني أكثر مردودًا من حيث الكمية المستخرجة منه، وذلك لتشبّع الأثل بالرطوبة، وكثرة الدخان الناتج عنه عند حرقه، على حين أن خشب السَّمُر قليل الرطوبة، وقليل الدخان عند مقارنته بخشب الأثل. ويلحق بهذين النوعين من الخشب نوع ثالث هو الحطب المتَّخَذ من شجر العُتُم (الزيتون البري) المنتشر في المناطق الجبلية بجنوب غرب المملكة العربية السعودية. وللقطران المستخرج من العتم ميزة خاصة، وهو أنه أكثر طيبًا في رائحته من ذلك الذي يُستخرج من حطب الأثل والسمر، وسنأتي إلى ذكر ذلك بعد. وتتم عملية استخراج القطران من الخشب وفق خطوات تبدأ بجلب الحطب من حيث منابت شجره في بطون الأودية في الغالب, ثم العمل على تقطيع الكمية المراد استخدامها إلى شظايا صغيرة (مفرد: شَظِيَّة) بطول شِبْر أو أكثر لكل شظية، بحيث لا يزيد طول الشظايا على عرض الإناء الذي تُرَصّ فيه. ويتراوح قطر كل شظية بين 3 إلى 6 سم، ثم ترصّ هذه الشظايا بانتظام في وعاء يُعرف باسم وعاء الكَبَّة الذي كان يُتخذ في السابق من الفخار، ثم من صفيح تَنَك الغاز (الكيروسين) المعروف بعلامة أبو غزالتين, بعد ذلك، وحاليًّا من البراميل الصغيرة التي كانت تُعبّأ بالبَوْيَا بعد تفريغها. وبعد أن ينتظم جمع الشظايا الخشبية في هذا الوعاء الذي ترصّ فيه، يُقلب رأسًا على عقب بحيث توضع فوهته التي تلي الشظايا، فوق فتحة العين الصغيرة المفضية إلى تجويف الموقد المتصل بالزير، ثم تُدفن حوافّ وعاء الكبّة الذي هو في الوقت الحاضر من البراميل الصغيرة، بالتراب والرماد حتى لا يجد الدخان سبيلاً إلى التسرّب إلى أعلا. ثم يُحاط البرميل الذي فيه الشظايا (وعاء الكبة)، ببرميل آخر أكبر منه حجمًا يُسمى مَلْوَى، ويكون مفتوح الجانبين، وبأطرافه خروم تسمح للهوى بالدخول ليساعد على الاشتعال، ثم يُملأ الفراغ الواقع بين البرميل المُصَمَّت الذي فيه الخشب، والبرميل المفرَّغ والمخرَّم الذي يحيط به، بمادة من جيد الفحم القويّ الاشتغال، ثم تُشعل فيه النار مكونًا حرارة عالية تعمل على حرق الخشب الذي داخل البرميل المقلوب حرقًا خارجيًّا بالحرارة العالية دون اشتعاله، وتحوّله إلى فحم أسود بسبب عدم نفاذ ألسنة اللهب والأكسجين إليه. وفي هذه الأثناء ينتج عن الخشب المحترق دخان كثيف، وأبخرة لا تجد سبيلاً للخروج من البراميل إلا من خلال ذلك الثقب الصغير المسمى فتحة العَيْن، والمتصل بتجويف الموقد المفضي إلى الزير والمطارف، وهناك تتكاثف الأدخنة والأبخرة، وتتحول إلى سائل هو القطران. وتكون أول مراحل التكثيف أو التقطير هذه في الزير، ثم في المَطْرَفَة التي تليه، ثم في التي تلي هذه المطرفة، وهكذا حتى نهاية المطارف. وهذه المطرفة الأخيرة يُترك فيها – كما وضحنا سابقًا – مَنْسَم صغير يسمح للأدخنة العادمة والفائضة عن حاجة التقطير بالتصاعد منها إلى خارج الموقد، وذلك لتخفيف الضغط الواقع على الموقد من شدة الحرارة، وحتى لا تتسب تلك الحرارة العالية في انفجار الموقد. وتستغرق عملية الحرق هذه من ثلاثة أيام إلى أسبوع، ويتم تغيير البرميل الممتلئ بالشظايا الخشبية (وعاء الكبًّة) أربع مرات كل ست عشرة ساعة، بحيث تستغرق عملية الحرق ثلاث ساعات، وساعة رابعة للتبريد. وكل مرة يُغَيَّر فيها الخشب تُسمى كَبَّة، وكل كبة تستغرق حوالي أربع ساعات – كما أوضحنا للتو – ويبلغ مجموع الكبات في أثناء ساعات العمل في اليوم والليلة أربعًا، وكل أربع كبات تعطي مردودًا من سائل القطران يكفي لملء صفيحة أو جرة سعتها أربعة جالونات، أو عشرون لترًا من المهل الصافي، وحوالى نصف هذه الكمية من القار. وينقسم القطران إلى قسمين: قسم خفيف يُشكل الطبقة الأولى من القطران المتجمّع في الزير والمطارف، ويُعرف باسم المهل، وقسم ثان ثقيل يلي طبقة المهل من الأسفل، ويستقر في قاع الموقد، وهذا القسم يعرف باسم القار. ولكل منهما استخداماته، فالقسم الأول وهو المهل يُستخدم في طلاء بعض الحيوانات، وبصورة خاصة الضأن، والماعز، والإبل، وهو دواء فَعَّال للقضاء على الجَرَب الذي يصيب الإبل والماعز بصورة خاصة، ويحمي الحيوانات التي تُطلى به من النامس، ويُدفّئ أبدانها من البرد في فصل الشتاء، ويعتقد الرعاة في بعض مناطق المملكة بأنه يكسب الحيوانات صحة وحيوية، ويزيد في شحمها، ويحميها من بعض الأمراض التي تظهر في الشتاء، على أنه لا يَحْسُن استعماله في طلاء الحيوانات صيفًا لحرارته. وأكثر أنواع المهل فاعليّة في القضاء على الجَرَب, هو ذلك النوع الذي يُستخرج من شجر السَّمُر, لكونه من أشدّ أنواع المهل حرارة. ويعدّ المهل أيضًا دواءً فعّالًا في القضاء على القِشْرَة، وفي قتل القَمْل والصِّئْبَان المتوطنة في شعر الإنسان، ولا سيما الأطفال، وكان يُستخدم على نطاق واسع في جنوب غرب المملكة لهذه الغاية، بل إن كثيرًا من الناس يستحسن غسل رأسه بطلاء المهل مرة كل شهر. ويوجد من المهل نوع راقٍ يسمى: سمن القطران له رائحة ذكية، ويُستخرج من أعواد شجر العُتُم أو الزيتون البري الذي ينمو بكثرة في الأقاليم الجبلية، وهو غالي الثمن، وخفيف تخالطه نسبة من الزيت، ويُدهن به الشعر، فيحميه من القشرة والقمل، ويعطيه لمعانًا، ورائحة ذكية. أما القسم الثاني وهو القار، فهو أسود اللون، كثيف، طيّب الرائحة, له نكهة محببة في الآنية التي تُطلى به، وأكثر ما يُستخدم في طلاء الآنية الخشبية من الأقْدَاح (جمع: قَدَح) والقِصَاع (جمع: قَصْعَة), والجِفَان (جمع: جَفْنَة), والمعَاشِر (جمع: مِعْشَرَة)، والرِّكِي الجِلْدِيَّة (مفرد: رِكَوة)، وبعض الصناديق السَّحَاِحيْر. وتُطلى به كذلك الأبواب والكراسي والاسرَّة الخشبية، ولاسيما تلك التي تُصنع من الأخشاب المحليّة، ويُستخدم مع الخرق البالية في تزبين الجرار والأزيار، ومداواة صدوعها بسبب فاعليّته في لصق أو لزق بعضها إلى بعض، وتثبيتها عند استخدامها. وهو مادة فعَّالة في القضاء على تسوّس الأخشاب التي تُطلى به, والحيلولة دون نخرها. وكان للقطران بجميع أنواعه رواج كبير في الأسواق الشعبية بالمملكة، وعليه طلب كثير من الأهالي، ولاسيما في فصلي الشتاء والربيع عندما تزداد الحاجة إليه لطلاء الحيوانات بسبب برودة الجو، وكثرة النامس والحشرات الأخرى التي يكثر وجودها في فصل الشتاء خاصة. نخلص مما سبق إلى أن حرفة استخراج القطران أو القَطْرَنَة من الخشب هي من الحرف التقليدية السائدة في محافظة القنفدة, ومن أشهر من اشتغل بها من أهلها قبيلة المقاعدة التي تقطن الضفة الجنوبية لوادي يَبَة في مقابل بلدة الحبيل بمركز القوز من الشمال. وهي حرفة متوارثة, وتقوم على حرق الخشب حرقًا إتلافيًّا بحيث تتكثّف الأبخرة المتولدة أو الناتجة عنه في سراديب تحت الأرض, وتتحوّل إلى سائل خفيف هو القطران, وآخر ثقيل هو القار, ولكل من السائلين استخداماته, فالأول تُطلى به بعض الحيوانات لمكافحة الجَرَب, أو يدهن به شعر الآدميين لمعالجة القشرة والقضاء على القمل والصِّئْبَان, والآخر ثقيل تُدهن به الأقداح, والقصاع, والأسرة, وعموم الأخشاب لحمايتها من التسوّس. وكانت هذه الحرفة سائدة في أقاليم كثيرة من المملكة العربية السعودية, ولكنها الآن بدأ يقلّ الإقبال عليها بسبب انصراف الأبناء عن مهن آبائهم, واشتغال كثير منهم بالوظائف الحكومية, أو بمهن أخرى أقل قساوة وتعبًا, وأفضل في عوائدها المادية .