الإعجاز العددي!

في النفس من التأويل العددي حرج كبير، وهو ما يدرس ضمن الإعجاز العددي، ومع أني لا أرتاد هذا الباب لكثرة ما فيه من خبط، إلا أنه يمكن أن نجد له مدخلا مناسبا إذا ما تم ربطه بأساس متين، إما من بيان القرآن نفسه من طريق الأشباه والنظائر، أو من طريق البيان النبوي الكاشف عن أسرار التدبّر. وبرغم التمحّل الوافر في هذا الباب إلا أنه تَعرِضُ أحيانا بعض اللطائف التثقيفية التي تتعلق بالعدد أو ما يتّصل به؛ وقد خطر لي شيء من ذلك، أثناء معالجتي بحثا أشتغل عليه خارج هذا الباب، لكن هذا التوافق بدا لي لافتا؛ وذلك فيما يتعلق بآيتين بينهما تجانس في الصياغة والحدث، هما قوله تعالى في سورة يس{وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى}، وقوله سبحانه في سورة القصص:{وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى}، فالآيتان كلتاهما تحملان رقم [٢٠]، وهما قد وردتا في سياق قصصي، يتعلّق الأوّل برجل يعظ أصحاب القرية ويرشدهم إلى اتّباع المرسلين، {قال يا قوم اتّبعوا المرسلين}، والثاني يحذّر موسى عليه السلام من ائتمار القوم ويأمره بالخروج{ إنّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك؛ فاخرج إنّي لك من الناصحين}، فما وجه التوافق العددي بين الآيتين؟. بدا لي من منظور يتعلّق بمصطلح الآية أن هذا التوافق مردّه إلى المنزلة بين الرجلين، وأنهما معًا في منزلة واحدة، من يدعو إلى الخير ومن يحذّر من الشرّ، من يدعم موقف الأنبياء في رسالتهم ومن يحميهم ويدافع عنهم ويحذّرهم من المتآمرين، وقد يمتدّ ذلك إلى أن يكون موقف الداعي إلى الخير بمنزلة موقف المدافع عنه؛ فكلا الرجلين نهضا برسالة واحدة وإن اختلفت طريقة كل منهما. يعزز هذا التوافق، في موضع الآية من السورة، ما ورد في الحديث الشريف من أنّ الآية تؤول يوم القيامة إلى المنزلة؛ كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقوله: «يقال لقارىء القرآن يوم القيامة، اقرأ وارتق ورتّل كما كنت ترتّل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر أية تقرؤها». وهذا رابط وثيق بين رتبة الآية وموضعها من السورة من جهة، ومنزلة تاليها والعامل بها يوم القيامة من جهة أخرى، وهو ما يعزّز ما ذكرته فيما يخص هذه اللطيفة القرآنية في توافق موقف الرجلين مع منزلة كل آية في موضعها من السورة التي وردت فيها، والله أعلم. وعطفا على ما ذكرت يمكن أيضا النظر في البيان القرآني من جهة التسوير وترتيب الآيات باعتبار منازلها ومدارجها في هذا البيان المعجز، الذي يحاذي الفضاء الكوني في مدارجه وآياته الظاهرة والباطنة بما يجمع بين المفاهيم والمعالم، والكتاب المقروء والكون المنظور.