شخصيّة الأستاذ والطالب الجامعي.

تُمثّل العلاقة بين الطالب الجامعي وأستاذه حجر الزاوية في مسيرته العلمية والعملية، ونقطة انطلاقته الحقيقية نحو مستقبلٍ واعدٍ، يؤهّله لأن يكون عضواً فاعلاً ومُنتجاً في المجتمع بعد تخرّجه. وتأخذ هذه العلاقة الجيّدة أشكالاً مُتعددّة، تتّسم بالمودّة والاحترام والمرونة والحوار، مما يؤثر إيجاباً في الطالب من الناحية المعرفية والسلوكية.. كما أن العلاقة بين الأستاذ والطالب الجامعي، بصفة عامّة، غالباً ما تختلف من بلد إلى آخر، مثلما تختلف شخصيّاتهما، نظراً لاختلاف الثقافات والمجتمعات. ولعل من أبرز من اهتمّ ولاحظ هذه الاختلافات وكتب عنها؛ المُفكّر الدكتور “هشام شرابي”، في كتاب سيرته الذاتية: “الجمر والرماد”، حينما تطرّق للجزء الخاص بدراسته للفلسفة في “الجامعة الأمريكية” في “بيروت”، ثم التحاقه للدراسات العُليا في التاريخ في جامعة “شيكاغو” الأمريكية. لقد كتب الدكتور “شرابي” عن تلك الاختلافات بأسلوب شيّق، من وجهة نظره التي ربّما كانت مُتحيّزة أو مُبالغاً فيها بعض الشيء، ولكنها على أيّة حال وجهة نظر تستحقّ التأمل والاهتمام، خصوصاً أن كاتبها يُعتبر من أبرز المُثقّفين والأكاديميين العرب، ومارس التدريس لسنوات طويلة في جامعة “جورج تاون” في “واشنطن”. يقول المؤلّف: بأن طلّاب الجامعة الأمريكية في بيروت كانت تخضع حياتهم لسُلطتين كان لا قُدرة لهُم على مُغالبتها: سُلطة الإدارة وسُلطة الأستاذ؛ كانت سُلطة الإدارة بالنسبة إليهم شاملة مُتكاملة، لا يعرفون أين تبدأ وأين تنتهي، أما سُلطة الأستاذ فكانت كسُلطة الأب بالنسبة إلى أبنائه، تُفرض من فوق ولا تقبل المُعارضة أو النقض. لا يتذكّر المؤلّف أن أستاذاً من أساتذته في بيروت، اعترف مرّةً أنه كان على خطأٍ أو أقرّ بجهلٍ، أو عبّر عن شكٍّ فامتنع عن اتّخاذ موقفٍ حاسمٍ وآثر التروّي ومُراجعة الفكر. فقد كان أساتذته جميعاً مصادر ثِقةٍ لا يعرف الشكّ مدخلاً إلى قُلوبهم، وكانوا يدخلون قاعة الدرس بثقة الضابط عندما يدخل الثُكنة، هُنا سُلطتهم مُطلقة وكلمتهم نهائية، وكانوا يعتقدون أن حُسن سلوك الطلاب قبولٌ بسُلطتهم واستسلامٌ لها، وأن سُكوت الطلاب دلالة تقدير للمُحاضرات التي كانوا يرتجلونها، وهُم يتمشّون جيئةً وذَهاباً وأعيُنهم مُثبّتة إلى سقف القاعة في تفكيرٍ عميق، وكانوا إذا طرح عليهم الطلاب أسئلةً تتضمّن بعض النقد أو الإحراج، يتّخذون موقفاً دفاعياً، ويُجيبون عن تلك الأسئلة بروحٍ عدائية، تدفع الطلاب إلى الصمت فالتّراجع. أما على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، في جامعة “شيكاغو”، على سبيل المثال، فقد كان درس مادّة “ الفلسفة البراجماتية” مرِحاً تسوده روح الأُلفة وعدم التكلّف، وقد كان الطلبة يتبادلون النُّكات ويضحكون ويأكلون الساندويتشات ويشربون الكوكاكولا، وعندما دخل أستاذ الفلسفة “تشارلز موريس” القاعة، لم يُغيّر أحدٌ من وضعه ولم يكفّ أحدٌ عن الكلام. جلس الأستاذ إلى الطاولة فوق المنّصة، ثم التفتَ إلى أحد الطلاب وقال: “ما نوع الساندويتش الذي تتناوله؟ لم أرَ ساندويتشاً بهذا الحجم”! وكان من عادة “موريس” أن ينتقل من مقعده إلى مقعد بين الطلبة، ويُناقشونه كواحدٍ منهم.. كان النقاش يحتدّ أحياناً ولكن دونما تشنّج، وينتهي دوماً بالفكاهة والضحك، ويُشارك الأستاذ فيها بتلقائية طبيعية. ومن ناحية أخرى، فقد كانت الدراسة والمطالعة والتحضير بالنسبة للطالب الأمريكي مُهمّة أساسية، فكان عندما ينفرد في غُرفته أو في زاوية من المكتبة، لا يُثنيه عن الدرس والمطالعة شيء، فلا يسمح لنفسه بالراحة والترفيه إلا بعد أن يُنهي ما يتوجّب عليه. وبالمقارنة، فقد كان سلوك أغلب الطلبة العرب هناك على عكس ذلك تماماً، إذ كان الواحد منهم دائماً على استعداد لأن يضع كُتبه جانباً، إذا سنحتْ الفرصة مثلاً لتناول كوباً من القهوة مع الأصدقاء في المقهى. ويصل المؤلّف إلى خُلاصةٍ تقول بأنه ليس من المصادفة أن يكون مجتمعنا قد عجز عن إنتاج الكثير من المُفكّرين أو العُلماء على مستوىً عالمي، فموهبة الإبداع لا تُكتسب ولا تُستورد ولا تُدرّس في الخارج. فالمقدرة الخلّاقة تكمن في أعماق الفرد، فإذا أُتيح لها المُحيط المُلائم الذي يُقدّمه المجتمع بأخلاقه وقيَمه وطُرق التربية فيه، نَمتْ وترعرعت وازدهرت، وإلا اختفت وقُضي عليها قبل أن يعرف أحدٌ بوجودها.